ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضا.
ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم.
والحاصل أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر، كما سنفصل الحديث عنها ضمن فرق المرجئة.
وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين (الحنفية) ، فحينئذ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة (١) حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، وهذا ما سيأتي بسط الحديث عنه بإذن الله في الباب الخاص بالظاهرة وانتشارها.
وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم الناس في هذا على أقسام:
أ - منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل.
ب - ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً.
(١) انظر الإيمان الأوسط ٥٤٣- ٥٥٠، والفتاوى (٧/٥٨٢) ، وانظر هنا: مبحث ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.