للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي. وهذا أيضًا ليس بشيء، فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة.

وحملت طائفة أخرى الإثبات والنفي على حالتين مختلفتين، فحيث جاء (لا عدوى) كان المخاطب بذلك من قوي يقينه، وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها. وحيث جاء الإثبات كان المراد به ضعيف الإيمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر. وقال مالك لما سئل عن حديث "فر من المجذوم": ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء. ومعنى هذا أنه نفى العدوى أصلاً، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع. وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.

قلت: وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَنْ به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك. ولهذا قال: "فر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال: "لا يورد ممرض على مصح". وقال في الطاعون: "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه" ١. وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال: "فمن أعدى الأول" ٢.


١ البخاري: الجمعة (١٠١٣) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (٨٩٧) , والنسائي: الاستسقاء (١٥١٨) , وأبو داود: الصلاة (١١٧٤) , وأحمد (٣/١٠٤ ,٣/١٨٧ ,٣/١٩٤ ,٣/٢٤٥ ,٣/٢٦١ ,٣/٢٧١) .
٢ البخاري: الجمعة (١٠١٤) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (٨٩٧) , والنسائي: الاستسقاء (١٥١٨) .

<<  <   >  >>