للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يارسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: "لا يا بنت الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

قال ابن القيم: الخوف من أجلِّ منازل الطريق، وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهم به أليق وله ألزم، فإن العبد إما أن يكون مستقيمًا أو مائلاً عن الاستقامة. فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهو ينشأ من ثلاثة أمور: أحدها: معرفته بالجناية وقبحها، والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، الثالث: أنه لا يعلم أنه يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وسبب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف، وضعفه هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوقوف بإتيانه بالتوبة النصوح، هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه، ولا يفارق حتى ينجو وأما إن كان مستقيمًا مع الله، فخوفه يكون من جريان الأنفاس لعلمه بأن الله مقلب القلوب. وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عزّ وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أكثر يمينه: "لا ومقلب القلوب" ١. ويكفي في هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ٢. فأي قرار لمن هذه حاله ومن أحق بالخوف منه، بل خوفه لازم له في كل حال، وإن توارى عنه بغلبة حال أخرى عليه، فالخوف حشو قلبه، ولكن توارى عنه بغلبة غيره، فوجود الشيء غير العلم به، فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله عزّ وجل وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما


١ البخاري: القدر (٦٦١٧) , والترمذي: النذور والأيمان (١٥٤٠) , والنسائي: الأيمان والنذور (٣٧٦١ ,٣٧٦٢) , وأبو داود: الأيمان والنذور (٣٢٦٣) , وابن ماجه: الكفارات (٢٠٩٢) , وأحمد (٢/٢٥ ,٢/٦٨ ,٢/١٢٧) , والدارمي: النذور والأيمان (٢٣٥٠) .
٢ سورة الأنفال آية: ٢٤.

<<  <   >  >>