ولولا ميلهم إلى أمور تنهض هذه الأسباب وسائل إليها أو صوارف عنها، لما قضت العقول بفطرتها في هذه الأمور بحسن ولا قبح، ولذلك نرى جماعة لا يحبون التسالم ويميلون إلى التغالب، فألذ الأشياء وأحسنها عندهم الغارة والنهب والقتل والفتك.
[السبب الرابع]
التأديبات الشرعية لإصلاح الناس، فإنها لكونها تكررت على الأسماع منذ الصبا بلسان الآباء والمعلمين ووقع النشء عليها، رسخت تلك الإعتقادات رسوخا أدى إلى الظن بأنها عقلية كحسن الركوع والسجود والتقرب بذبح البهائم وإراقة دمائها، وهذه الأمور لو غوفص بها العاقل الذي لم يؤدب بقبولها منذ الصبا لكان مجرد عقله لا يقضي بحسن ولا بقبح، ولكن حسنت بتحسين الشرع فاذعن الوهم لقبولها بالتأديب منذ الصبا.
[السبب الخامس]
الإستقراء للجزئيات الكثيرة، فإن الشيء متى وجد مقرونا بالشيء في أكثر أحواله ظن أنه ملازم له على الإطلاق، كما يحكم على إفشاء السلام بالحسن مطلقا، لأنه يحسن في أكثر الأحوال ويذهل عن قبحه في وقت قضاء الحاجة، ويحكم على الصدق بالحسن لوجوده موافقا للأغراض مرغوبا في أكثر الأحوالن ويغفل عن قبحه ممن سئل عن مكان نبي أو ولي ليجده السائل فيقتله، بل ربما اعتقد قبح الكذب حينئذ بإخفاء المحل المصادفة الكذب مقرونا بالقبح في أكثر الأحوال.
فهذه الأسباب وأمثالها علل قضاء النفس بهذه القضايا وليست هذه القضايا صادقة كلها ولا كاذنبةكلها، ولكن المقصود أن ما هو صادق منها فليس بين الصدق عند العقل بيانا أوليا، بل يفتقر في تحقيق صدقه إلى نظر وإن كان محمودا عند العقل
الأول، والصادق غير المحمود، والكاذب غير الشنيع. ورب شنيع حق، ورب محمود كاذب،