ولا ينبغي أن تسلم المقدمات ما لم يكن اليقين فيها على الحد الذي وصفناه. وكما يظن فيما ليست أولية أنها أولية فقد يظن بالأوليات أنها ليست أولية فيشكك فيها، ولا يتشكك في الأوليات إلا بزوال الذهن عن الفطرة السليمة، لمخالطة بعض المتكلمين المتعصبين للمذاهب الفاسدة بمجاحدة الجليات حتى تأنس النفس بسماعها فيشك في اليقيني، كما أنه قد يتكرر على سمعه ما ليس يقينا من المحمودات فتذعن للتصديق به وتظن أنه يقيني بكثرة سماعه، وهذا أعظم مثارات الغلط ويعز في العقلاء من يحسن الإحتراز من الإغترار به.
فإن قلت فمثل هذا اليقين عزيز يقل وجوده فتقل به المقدمات.
قلنا: ما يتساعد فيه الوهم والعقل من الحسابيات والهندسيات والحسيات كثير، فيكثر فيها مثل هذه اليقينيات، وكذا المعقولات التي لا تحاذيها الوهميات فأما العقليات الصرفة المتعلقة بالنظر في الإلهيات ففيها بعض مثل هذه اليقينيات، ولا يبلغ اليقين فيها إلى الحد الذي ذكرناه إلا بطول ممارسة العقليات، وفطام العقل عن الوهميات والحسيات وإيناسها بالعقليات المحضة، وكلما كان النظر فيها أكثر والجد في طلبها أتم كانت المعارف فيها إلى حد اليقين التام أقرب، ثم من طالت ممارسته وحصلت له ملكة بتلك المعارف لا يقدر على إفحام الخصم فيه ولا يقدر على تنزيل المسترشد منزلة نفسه، بمجرد ذكر ما عنده إلا بأن يرشده إلى أن يسلك مسلكه في ممارسة العلوم وطول التأمل حتى يصل إلى ما وصل إليه إن كان صحيح الحدس ثاقب العقل صافي الذكاء، وإن فارقه في الذكاء أو في الحدس أو تولي الإعتبار الذي تولاه لم يصل إلى ما وصل إليه، وعند ذلك يقابل ما يحكيه عن نفسه بالإنكار ويشتغل بالتهجين والإستبعاد، وسبيل العارف البصير أن يعرض عنه صفحا بل لا يبث إليه أسرار ما عنده، فإن ذلك أسلم لجانبه وأقطع لشغب الجهال، فما كل ما يرى يقال بل صدور الأحرار قبور الأسرار.