يقول القرطبي: فلما جَاءَ ذلك وخشي النَّاس أن يتخذ القبر قبلة، بني بناء القبر وما حوله عَلَى شكل مثلث وجعل قاعدته من جهة القبلة، ورأس المثلث من جهة الشمال، فإذا وقف الإِنسَان فإنه لا يستطيع أن يتخذ القبر قبلة ولا أن يدعوه لأنه عَلَى رأس القائمة، ولذلك من يظن أنه يعبد قبره أو أراد الوصول إليه فإنه لا يستطيع، بل ولا يستطيع أن يراه. ولكن هذا الذي ذكره هَؤُلاءِ العلماء الأجلاء لا يعارض ولا يمانع ما هو واقع الآن ومشاهد حساً، ووقع في القرون الماضية، وهو أن النَّاس الجهال يتخذون القبر وثنًا، وهذا يدل عَلَى أن هذا الحديث ليس المراد به الإجابة المطلقة، لوقوع ذلك من الجهال، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبرأ ممن يفعل ذلك وسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذلك لكي لا يؤاخذ أو يظن به أنه مقر بهذا الفعل.
والاحتياطات تبرىء الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عندما أحاطوه بالجدران، وأيضاً تبرئ من بعدهم ممن وضع البناء عَلَى شكل مثلث، ومثل ذلك ما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أرسل خالد بن الوليد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى العزى فقطعها، وأرسل عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب إِلَى القبور والصور فطمسها ومحاها، ومع ذلك تعود عبادة العزى من دون الله -عَزَّ وَجَلَّ- قبل قيام الساعة، وتعود الأصنام وعبادة القبور.
فاتخاذ الأسباب والاحتياطات لعدم وقوع الشرك ضروري ومطلوب وواقع، لكن لا يتنافى مع وقوع الشرك بالفعل، مثل ما فعل عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندما قطع شجرة الحديبية، وهذا هو الواجب من سد ذرائع الشرك.
والآن نعود إِلَى موضوع إثبات الفطرة الذي هو دليلٌ عَلَى توحيد الربوبية، وبيان أن الرسل إنما جاءوا لتقرير توحيد الألوهية