الوجه الثالث: أنهم عارضوا مشيئة الله وقدره بشرعه، فردوا شرعه الذي أنزله عَلَى رسله وكتبه بمشيئته، وهذا من باب العناد ومن باب الاستكبار عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرد أمره ووحيه بمشيئته وقدره، ولذلك قال في سورة الأنعام: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:١٤٨] أي أن هذا التكذيب حصل من الكفار، فليس قول هَؤُلاءِ الكفار أو إبليس اللعين يعني أنهم يثبتون قدر الله عَزَّ وَجَلَّ ويؤمنون به، لا.
إنما قالوه اعتراضاً منهم عَلَى الأمر وعلى التوحيد، ومثل هذا ما اعترض به السارق عَلَى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال السارق: كيف تقطع يدي يا أمير المؤمنين وما سرقت إلا بقدر الله وقضاءه؟! واحتج بالقدر عَلَى فعل المعاصي.
فأجاب أمير المؤمنين بجواب الموحدين. فقَالَ: أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.
فقطع يده فعلمنا أن الله قدر أن تقطع يده، ولو لم يشأ الله أن تقطع يده، لما قطعها عُمَر.
إذاً هذه بقدر الله وتلك بقدر الله، لأنه لا تعارض بين أمر الله شرعه وقدره، ولا تعارض بين إقامة الحد وبين القدر؛ لأن الحدود إنما تقام بقدر الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا دليل عَلَى كمال فهم الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لهذه الأمور، لا كما يقول المتفلسفة والمتكلمون: إن الصحابة ما عرفوا هذه المسائل ولا أتقنوها ولا فهموها ولا استوعبوها؛ بل كانوا مشتغلين بالجهاد في الفتوحات، وليس الأمر كذلك؛ بل كانوا يفهمون ذلك غاية الفهم، ولكن لم يخوضوا فيها ولم يحتاجوا أن يتحدثوا عنها إلا بما ورد، وهو كثير وكافٍ لمن أراد الحق، ومن ذلك هذا الأثر المشهور.