إنسان كتب وثيقة أن لفلان عندي ألف ريال وخط فلان هذا معروف، قالوا: لا ينفع هذا الخط فلا بد من شاهدين، فمن أين يأتي بشاهدين؟!
فلما حصلت هذه الأخطاء عند بعض القضاة، اضطر الأمراء حينئذ إِلَى أن يقولوا: لا؛ بل نحكم بموجب الكتابة، ونحكم بموجب القرائن، ونحكم بموجب وقائع مساعدة وغلبة الظن وأمثال ذلك، فخرجوا قليلاً قليلاً وبدأ الانفصال فأصبح هناك شرع وهو ما يحكم به القضاة، وهناك سياسة وهي ما يحكم به الأمراء، وهذه وإن لم تكن مخالفة للشرع بل هي داخلة ضمن عموميات الشرع.
لكن الأمر اتسع حتى ظهر الياسق الذي سبق أن تكلمنا عنه وقلنا: إنه كتاب كتبه التتار الذي عَلَى ألواح من الفولاذ، وهو كتاب جنكيزخان وقد شرَّع فيه أحكام القتل والدماء وأمر أن يتوارثها أبناؤه، وتوارثها أمراؤه إِلَى أن جَاءَ هولاكو الذي دمر بغداد ودخل بلاد الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ دخل هَؤُلاءِ في الإسلام، وكان معهم هذا الكتاب يطبقونه عَلَى أنفسهم في الأمور العسكرية، وفي الأمور السياسية، وتركوا قضاة الْمُسْلِمِينَ يحكمون في الأمور الشرعية، فأدى ذلك إِلَى أن يقوم علماء الإسلام، ويبينوا حكم من تحاكم إِلَى غير دين الله، ومن تحاكم إِلَى هذا القانون المسمى بالياسق.
فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فتواه بتكفيره، وتكفير من تحاكم إِلَى هذا الكتاب، وأن التتار يجب أن يقاتلوا قتال ردة وكفر؛ لأنهم يتحاكمون إليه ولا يتحاكمون إِلَى دين الله، وأقبل عَلَى هذه الفتوى كثير من العلماء في ذلك الزمان، فكانت هذه أول واقعة في تاريخ الأمة الإسلامية أن يوجد قانون مكتوب يعارض به شرع الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثُمَّ ما لبث أن اضمحل وانتهى.