للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقلنا: إن هذا الانحراف وقع في حياة الأمة الإسلامية بالتدريج، وكان أول ما ظهر، أنه عندما عجز بعض الفقهاء وبعض القضاة عن الاجتهاد عن الحكم في مسائل، أولم يحال إليهم الحكم بمسائل معينة من المنازعات والخصومات التي تقع بين الناس، أو أساءوا فهم بعض أمور الشرع والدين العامة فكانت النتيجة، أن ظن النَّاس أن الدين ناقص وعاجز عن الحكم في هذه الأمور.

ومن أمثلة ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في الطرق الحُكمية في البينة: فمن الأصول القطعية المقررة شرعاً، أنه لا حكم إلا ببينه، والبينة عَلَى المدعي، هذا أمر مقرر وقاعدة قطعية، لكن بعض الفقهاء فهموا أن البينة هي الشاهدان، فحصروا البينة في هذا، والمنازعات ووقائع الحياة تتعدد وتتوسع وتقع قضايا كثيرة جداً لا يمكن أن تثبت عن طريق الشاهدين مع قيام الدليل والحجة عَلَى أن الجاني فلان -مثلاً- لكن القاضي والفقيه لا يحكم بشيء إلا بوجود شاهدين! فأدى ذلك إِلَى أن يأتي الأمراء حتى لا يتركوا النَّاس بلا أحكام، فَقَالُوا: إذاً نَحْنُ نحكم في هذه المسائل من عندنا، فأصبحت تسمى سياسة، يقولون: هل قُتل فلان شرعاً؟ قالوا: لا لأننا لم نجد شاهدين، لكن قتل سياسة لأن الأمير رأى أنه يقتل؛ لأن البراهين قد قامت عَلَى أنه هو الجاني.

ويضرب ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- مثالاً عَلَى البينة فَيَقُولُ: لو أن إنساناً عَلَى رأسه عمامة، وفي يده عمامه وهو يجري، ووراءه إنسان ليس عَلَى رأسه عمامة وهو يصيح قائلاً: هذا أخذ عمامتي، يقول: فهنا البينة موجودة، فلا نحتاج أن نأتي بشاهدين عَلَى أن هذا سرق العمامة، لأن هذا بلا عمامة ويجري وراء إنسان هارب بيده عمامة، وأي إنسان يرى هذا المنظر يعلم أن هذا الإِنسَان سارق أو مختلس لكن بعض الفقهاء يقولون: لا بد من شاهدين.

ومثال آخر:

<<  <   >  >>