التصوف الذي دخل عَلَى الإمام أبي حامد الغزالي أتاه من مدخل يأتي إِلَى كثير من النَّاس في زمانه وفي كل زمان دائماً وهو من باب ترك الدنيا، والانعتاق منها، والتجرد والخروج عنها، وكذلك تضخيم حقارة الإِنسَان، وإزدراء عمله، وأنه غير مقبول، وأنه مرذول عند الله، وأن الله لا يتقبل منه، وأن صلاته، وأعماله لا تساوي شيئاً، فضخموا هذا بشكل كبير حتى حالهم، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كمن بنى قصراً ولكنه هدم مصرا، فيؤدي بهم إِلَى إحباط شديد لدى الإِنسَان وعدم ثقته لا بالدين ولا بالعمل، وقد يؤدي بهم -والعياذ بالله- إِلَى الضياع والضلال، حتى أصبحوا يشربون الخمر ويعربدون ويسكرون، ويستعملون الحشيش -والصوفية أول من اكتشف الحشيش، ولهذا يسمونها: حشيشة الفقراء، والفقراء معناها: الصوفية، كانوا يسمون أنفسهم وما يزالون الفقراء- والشاهد: أنهم كانوا يريدون الهروب من الواقع، كما فعل الحارث المحاسبي وغيره، من التيئيس والتنفير من الدنيا.
يقول الغزالي أنه لما عرف طريق التصوف بدأ يتهم نفسه، قَالَ: أنا في مدرسة عظيمة -النظامية- وهي مدرسة كبيرة أشهر مدرسة في الدنيا، وفي بغداد عاصمة الدنيا جميعاً، وكان يأتي إِلَى حلقته أربعمائة عمامة، أي: أربعمائة من العلماء يجلسون في حلقته، يقول: إذا عرفت أن هذا هو الطريق الصحيح، واحتقرت عملي، وعرفت أني كنت فيه مرائي كما يقول عن نفسه: وجدت أن أعمالي الماضية في العلم كلها رياء، ولما وجدت أن هذه الأعمال كلها فيها رياء قررت أن أنسلخ، فتحايل بحيلة، وقَالَ: أريد أن أحج حتى يسمح له الوزير بالخروج: فاحتال أنه يريد أن يحج فخرج من بغداد ولم يرجع، قَالَ: وقررت أن لا أعود إليها أبداً.