تحريره، ويجب أن يُعْلَم أن القولَ بأن كفر السابِّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلالِه السبَّ زلةٌ منكرةٌ وهفوةٌ عظيمةٌ ... وإنما أوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقَّوْه من كلامِ طائفةٍ من متأخري المتكلِّمين الذين ذهبوا مذهبَ الجهمية الأولى ...
وليس الغرض استيفاء الكلام، وإنما الغرضُ التنبيهُ على ما يخصُّ هذه المسألة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: "أنه إن كان (أي: السابّ) مُسْتحلًّا كفر وإلا فلا"، ليس لها أصلٌ، وإنما نقلَها القاضي (يعني: أبا يعلى) من كتاب بعض المتكلمين الذين حكَوْها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا في أُصولهم، أو بما سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يُعَدّ قولُه قولًا ... فلا يظن ظانٌّ أن في المسألةِ خلافًا يجعلُ المسألةَ من مسائل الخلافِ والاجتهاد، وإنما ذلك غلط، لا يستطيع أحدٌ أن يحكيَ عن واحدٍ من الفقهاء وأئمة الفتوى هذا التفصيلَ أَلْبتةَ.
الوجه الثاني: إذا كان سبب الكفر هو الاستحلالُ، فلا فرقَ في ذلك بين سبِّ النبيَّ وبين قذفِ المؤمنين والكذبِ عليهم والغيبةِ لهم، إلى غير ذلك من الأقوال المعلوم تحريمها، فإن من فعل شيئًا من ذلك مُسْتحلًا كَفَر.
الوجه الثالث: إذا كان ذلك كذلك، فلا أثر إذن للسَّبِّ في التكفير وجودًا وعدمًا، فالمؤثِّر - على ما زعموا - هو الاعتقادُ والاستحلالُ. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء؛ إذ أجمعوا على كفر السابّ استحلّ أو لم يستحلّ.