قال في الطبقات:"قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن الملهب كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا واضطررناه إلى عرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام؟ فقيل له: إن يحيي بن المعمر عنده. فقال: ذاك إذًا. ويحيي بن المعمر هذا هو من حملة اللغة وأئمتها."
سارت العامة على خطها المنحرف، وامتد سيرها هذا لما كثر توغل العرب الفاتحين في بلاد الأعاجم، وكلما امتد السير زادت بعيدًا عن الفصحى؛ إلا أن هذا الطريق لم يكن ممهدًا بل كانت تعترضه عقبات من عناية العلماء بالفصحى، لما رأوا ما منيت به من التحريف، فأخذوا في محاربة هذا الداء، وصنفوا في تقويم العامية وردها إلى الفصحى وتطهيرها، أو تطهير أقلام الكتبة على الأقل، من اللحن.
ونجد كثيرًا من هذه الجهود في مثل:"أدب الكاتب" لابن القتيبة، و "درة الغواص" للحريري. فلم يكن، والحال هذه، سير العامية في خطتها الملتوي، شديد الاندفاع كما هو الحال في غير العربية من اللغات. وإن اللغات الراقية اليوم، التي دونت فصحاها بعد تدوين فصحى العربية بقرون، ترى فصحاها بعيدة عن عاميتها أكثر من بعد فصحى العربية عن عاميتها.
يقول جبر ضومط، أستاذ اللغة العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد أن أثبت أن للإنكليزية والفرنسية والألمانية- وهي في مقدمة اللغات الراقية في هذا العصر- لغة فصحى مكتبية، ولغة عامية دارجة:" فالمكتبية في أعلى درجات الفصاحة، والدارجة في أحط الدرجات في بعض أقسام لوندرة وباريس وبرلين، عواصم هذه اللغات الثلاث." ثم ذكر أنه تعرف بمستشرق اسوجي جاء بيروت لدرس اللغة العربية الدارجة، وكان عارفًا خبيرًا، فأخبره أن عندهم لغتين: فصحى ودارجة، وأن الدارجة الأجنبية أكثر من الدارجة العربية بعدًا عن الفصحى.
وأنا لا أرتاب في أن اللغة التي حملها الفرنسيس، أيام الحملات الصليبية إلى سورية، لم تكن كاللغة التي حملها حُفَداؤهم إليها في هذه الأيام؛ وأن اللغة التي نظم بها شكسبير قصائده لا يفهمها العامي الإنكليزي اليوم أكثر مما يفهم العربي قصائد المتنبي وأبي العلاء المعري. ولكن لغة موليير الفرنسية، فيما أحسب، بعيدة عن لغة أميل زولا بعد لغة ملتون الإنكليزية عن لغة دوسكن. بينما لم تتغير لغة المتنبي عن لغة شوقي وبينهما ألف عام. إلا أن لغة المتنبي وابن الأحنف والطائيين تخالف لغة الزاجل في شعره اليوم، بل إن لغة الزاجل اليوم تخالف لغة الزاجل في عصر ابن خلدون.