أما إذا كان مجرد حدسٍ وتخمين، فللحدس والتخمين أيضًا مجال آخر. وحينئٍذ يجوز لذاهب أن يذهب إلى أن الحركات الإعرابية ربما كانت وضعت بوضع خاص، وذلك بأن يقال: إن أبناء اللغة الأولى كانوا في تمدنهم وعلومهم بمنزلٍة صالحة تدل عليها آثارهم، وقد دلت الآثار أنه كان للبابليين مدارس منظمة يعلمون فيها الحكمة والطب والفلك، وظهر من آثار هذه المدارس وجداول الضرب الحسابية التي كانت تدرس فيها. وأخبرنا التاريخ عن مزيد عنايتهم بلغتهم الفصحى والتي حفظوها واتخذوها لغة رسمية لهم، وكانت مصقولة مهذبة، كما تقدم القول عن العلامة مسبيرو، فلا يبعد، والحال هذه، عن الذين صقلوا لغتهم وهذبوها، أن يكون في جملة ما عملوه في صقلها وتهذيبها وتحريهم البلاغة فيها أنهم تعمدوا الاختصار في الكلام مع الوفاء بالدلالة على المراد، وهو المسمى في علم البيان بالإيجاز، وهو من أعلى ضروب البلاغة. ومن ضروب هذا الاختصار وضع العلامات الإعرابية على شكل حركات لا تطول بها الجملة، ولا يتغير بها وضع الكلمة من موقعها فيها، فدلوا بهذه الحركات على مرادهم بها في جملتها، فاعلة أو مفعولة أو غير ذلك، مقدمة أو مؤخرة، لتدل في التقدم والتأخير على معان مراده، وأن يكون ذلك جرى في مجامع لهم خاصة أو عامة أو من جماعات أو أفراد لهم محل القدوة من الأمة؛ فأخذه عنهم عليه القوم وتبعهم في ذلك المقتدون المتشبهون بهم، وجرى مجرى الاستحباب أولًا ثم تأصل عادة وتقليدًا، ثم ملكة راسخة على طول المدة والممارسة. ويكون ذلك منهم حيث قل انتشار الفساد في اللغة، وسرى ذلك في سكان البوادي فحفظوه وجروا عليه.
ولنفرض لذلك مثلًا فنقول: استعمل أبناء اللغة "ما" الاستفهامية بدلًا من "أي شيء" اختصارًا، فاشتبهت "بما" التعجبية ووقعت أفعل بعدها كأحسن في قولك: "ما أحسن زيد"، واشتبه على السامع أي المعنيين يريد المتكلم: ما الاستفهام أو التعجب؟ ونصب القرينة اللفظية تطويل، والمفروض أننا فررنا منه، فحركوا حينئِذ ما وقع بعد التعجب بالنصبـ، وما بعد ما الاستفهامية بالرفع؛ وليس في هذا مشقة ولا إطالة.
وكذلك يتميز الفاعل بالرفع والمفعول به بالنصب، وفي هذا لا يشتبه الفاعل بالمفعول به سواء تقدم أو تأخر. وتبقى اعتبارات التقدم والتأخر وفوائدها البيانية صحيحة سليمة؛ ولكن هذا إنما يجري حيث يكون الفاعل صالحًا لأن يكون مفعولًا به، أما إذا لم يكن صالحًا لذلك في مثل:"كسر الزجاج الحجر" و "قال الشاعر قصيدة" فإنه يستغنى عن ذلك؛ لكن القسم الأول أكثر في الكلام وأشهر، فكان ذلك لأجله. ولعل مثل هذا احتجاج إلى مدة متطاولة، وبعد اختلافات كثيرة بين الأصقاع والقبائل في الاستعمال، حتى استقر وثبت منه الأحسن والأصح في الاستعمال، فعم وشاع وذهب ما عداه.