بين الأنيس والذئاب، ولتمثيل هول الموقف. لهذا لم يتعدَّ الصواب من أجاز من العرب البدلية في الكلام التام المنفي، من هذا الاستثناء، لأنه في حكم المتصل معنى، ألا ترى أنك إن حذفت المستثنى منه وسلطت العامل فيه على المستثنى صح اللفظ والمعنى, فتقول "لا يتكلم في الحرب إلا ألسنُ النيران"، وتقول "مررت بفلاة ليس فيها إلا الذئاب"، من غير أن ينقص من المعنى شيءٌ إلا ما كنت تريده من إعظام الأمر وتهويله. ويجري هذا المجرى الأبيات الثلاثة التي مرت بك آنفاً. هذا هو الحق فاعتصم به.
وبما قدمنا تعلم أنَّ في إطلاق النحاة الكلام، في الاستثناء المنقطع، تساهلاً لا ترضاه أساليب البيان العربي. وتمثيلهم له بقولهم "جاء القوم إلا حماراً" شيءٌ يأباه كلام العرب. نعم يصح أن تقول "جاء القوم إلا الحمار، أو إلا حماراً لهم، أو إلا حمارهم" إن كان من العادة أن يكون معهم. أما "جاء القوم إلا حماراً" فلا يجوز، وإن كان من العادة مجيءُ حمار معهم، لأنه لا يجوز استثناء النكرة غير المفيدة (أي التي لم تخصص) من المعرفة. كما قدمنا.
٤- "إلاَّ" بِمَعْنى "غَيْر"
الأصلُ في "إلاّ" أن تكونَ للاستثناء، وفي "غير" أن تكون وصفاً. ثمَّ قد تُحمَلُ إحداهما على الأخرى، فَيوصَفُ بإلاّ، ويُستثنى بغير.
فان كانت "إلا" بمعنى "غير"، وقعت هي وما بعدَها صفةً لما قبلها، (وذلك حيثُ لا يُرادُ بها الاستثناءُ، وإنما يُرادُ بها وصفُ ما قبلَها بما يُغاير ما بعدَها) ، ومن ذلك حديثُ "الناسُ هلَكَى إلا العالِمونَ، والعالِمونَ هَلكَى إلا العامِلونَ، والعاملونَ هلكى إلاّ المخلصون"، أي "الناسُ غيرُ العالمينَ هَلكى، والعالمونَ غيرُ العاملين هلكى، والعاملونَ غيرُ المخلصينَ هَلكى"