للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- أن تصير الفكرة عقيدة (١)

تبلغ في النفوس درجة من الإيقان بحيث لا


(١) لا يشترط في العقيدة أن تكون دينية، فكل فكرة، إن بلغ الإيمان بها مبلغ اليقين واختلطت بسمع الإنسان وبصره، واستولت على مداركه واهتماماته وتطلعاته، صارت عقيدة، وإنما يتأتّى تغلّب سلطان العقيدة الدينية مما لها من امتداد غيبي يمازج ضمير الفرد ويستقطبه حتى إن غابت الرقابة الخارجية، بالإضافة إلى أن الأديان في الغالب توحّد بين المصلحة الفردية والقيم الأخلاقية. ولأهمية الدين عدّ بن نبي العقيدة الدينية من مستلزمات الوجود الحضاري. ينظر: بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص٧٠. ولذلك أيضًا اعتبر الحضارة الغربية الحديثة مرحلة من مراحل الحضارة المسيحية، والشيوعيةَ أزمةً مادية من أزماتها .. ينظر: نفسه: ص٥٤. ولا نسلم له بهذا الاستنتاج وذلك الإطلاق، لأن الحضارة الغربية الحديثة قامت على مُثُل غير تلك التي تغلب على الديانة المسيحية، أقصد بها تمجيد العقل، وتقديس الإنسان، ولكن صواب استنتاجه يظهر من منظور آخر، ذلك أن الحضارات لا بدّ لها من أن تمتلك منظومة أخلاقية تمسك المجتمع وتحميه من الانحلال، وقد استطاع الدين المسيحي أن يوفّر للحضارة الغربية في مراحل نهضتها الأولى تلك المنظومة، فلما بدأ النزوع الديني بالخفوت نتيجة ارتفاع صوت العقل، أوجد مفكرو الغرب ما يسمى بمنظومة "الأخلاق النفعية" التي زرعت في الفرد نازعًا أخلاقيًا مشروطًا بالمصلحة المتبادلة، فأسهم هذا في حفز عجلة التقدم المادي، ولكن عندما تشحّ المصالح، وتعسر شروط التنافس، تغدو الأخلاق النفعية حافزًا للذاتية والأنانية، وسببًا من أسباب الانهيار .. وما التجربة الشيوعية إلا تجلّ من تجليات الفكر الغربي في بحثه عن توازن المصالح المفقود بين الفرد والجماعة، وسعيه لخنق مارد الأنا المتفلت بانهيار الأخلاق المسيحية في قمقم الجماعة، وعلى الرغم من أن الشيوعية قامت على عقيدة مادية معادية للدين فقد ساعدها هذا الأصل الأخلاقي الذي يزكيه ضرورة إنسانية عامة بتحقيق العدالة، في تحقيق انطلاقتها القوية، لتهوي من بعدُ سريعًا لما ذكرناه آنفًا من أنها ضحّت بالاستغراق الضروري، وبشرط الشمول، واستبعدت المكوّن الروحي، وخصوبة التنوع الاجتماعي؛ الفردي والجماعي، ولا يحلق طائر بجناح!

<<  <   >  >>