حدّ الوفرة والترف في كل شيء، وتجتهد الطاقات لتحقيق أسمى الطموحات، فتُشبع الآمال، ويشيع الرضا .. ولكن الرضا (١)
يتحوّل إلى قناعة وسأم، والسأم يغري بالتهالك على اللذات، والإمعان في اقتحام المحظورات، وتتكفل القناعة بتبرير التكاسل، وإيثار الراحة، وقتل الطموح، وتبديد القلق المحفِّز على النشاط والفاعلية .. وما بين الإفراط والتفريط تضيع الحضارة.
تجتهد الوفرة للتغلّب على التحديات الطبيعية، وتُغرق الأمة بما يزيد عن حاجاتها الضرورية، وتفتح لها أبوابًا مشرَعة إلى الراحة واللذة، مع قدرة عالية على السيطرة على العالم الواقعي والقوة على إدارته، وباجتماع القوة والوفرة في أمة ما زالت مشبعة بطاقة واندفاع على وشك النفاد، تحاول الأمة أن تستغل الفائض من طاقتها باختلاق تحدّياتها الخاصّة أو المفتعلة وتوليدها، للحفاظ على مستوى من التوتّر يغري بالطموح والإنجاز، وذلك عبر كثير من النشاطات التي تفيض عن الضروري وتؤول إلى الحاجي أو الكمالي، حيث تكون الضروريات في حالة إشباع قصوى. ويشيع هذا النمط من التحديات في كل شيء؛ في العلوم والفنون، والعلاقات الاجتماعية والتقاليد والأعراف والشعائر، والمتعة والأشياء .. ما يحوّلها، رويدًا .. رويدًا، إلى شكلانية تتعلق بالزينة والزخرف على حساب الجوهر والمضمون، ويضعف أساسها الوظيفي، ليتخافت، من ثمّ، أثرها في عالم الواقع
(١) إن الاكتفاء والرضا يقتلان الطموح، فقد سأل أحدهم دليله من الإسكيمو قائلاً: "فيم تفكر؟ "، فكان جوابه: "ليس لديّ ما يدعو إلى التفكير لأن لدي مقدارًا كافيًا من اللحم". ديورانت، ول: قصة الحضارة، ١/ ١١ ..