للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص]

ما سبق هو واقع التنزيل لأول السور المفتتحة بالحروف المقطّعة، ومنها هذه السور (القلم، ق، ص) وهذه السور مكية بالإجماع، وكانت سورة القلم (ن) من أول ما نزل من القرآن وأول ما نزل من فواتح السور، وكلها أتت على نسق واحد في واقع التنزيل، وهو أن المشركين نعتوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكرم ذكره بالكذب والسحر والكهانة والجنون، وقد أتى نعتهم هذا بعد إعجازهم بنظم القرآن وبيانه وحفظه، فجاءت هذه السور بالقسم الإلهي أن رسول - صلى الله عليه وسلم - صادق، وجاء الرد أولاً في (ن) بأنه ليس بمجنون، فالمجنون لا يجمع هذه العلوم في صدره من غير معرفة بعلم الكتابة وعلم الحروف، حتى الشعر لا يعرفه، وهو من أساليب نقل العلوم. فلن يعلم ما جاء في ذكر الأولين والآخرين وما يصلح للحكم والتشريع إلا من باب واحد، وهو السماء والوحي من خالق العباد، الخبير بما أنعم على البشر من حروف ولغات وأسباب لتحصيل العلوم، وهنا نزل قوله تعالى {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)} فقد جاءت هذه السورة للرد على قولهم مجنون، وقالوا عنه مجنون لأنه ادعى القدرة إصلاح البشر جميعاً بما يقرأ من آيات، وقال بأنه أُرسل للناس كافة وليس لهم فقط، وأن الكتاب الذي أُنزل عليه فيه علم الأولين والآخرين وفيه شرع الله لأهل الأرض أجمعين، فهذا هو سبب التنزيل الظاهر في الآيات، وجاء في آخر السورة {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٥٢)} أي مع إعجابهم بك واستغرابهم بما لا يطيقه بشر، وما لا يمكن لرجل أن يفعله حتى كادوا ليوقعوك أرضاً من عيونهم ومن نظراتهم، هم يقولون بل هو مجنون! أوَمَا علموا أنها رسالة لجميع الأمم؟ وهي عزّ وفخر لهم لكونها بلغتهم؟ فامض يا محمد بالرسالة ولسوف يرون بأعينهم ما تؤول له الأمور.

<<  <   >  >>