[الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام]
نعلم جميعاً نحن المسلمين بأن كتاب الله قد نزل بحروف عربية وكلمات عربية ونظم عربيّ، ومع ذلك فهو إلهيّ النسب إلهيّ المبدأ وإلهي المنهج، ولا يُحيط بأسرار إعجازه أحد، لا من العرب ولا من سواهم، إلّا ما شاء الله أن يعلموه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، لأنّ الله قد تعالى بهذا الكتاب - كما تعالى بكل صفاته - عما ينشأ في الأرض من كتب وغايات مبدئها إنساني ومنتهاها إنساني. وإن كان القرآن قد نزل بلغة العرب، فليس لأنها قادرة على استيعاب الوحي الإلهي دون غيرها من اللغات وقد نزل بسواها سابقاً، ولم تُكتبْ آياته بحروفها لكونها أشرف الحروف وأبدعها في البيان قبل التنزيل، بل نزل بلغة العرب لإتمام الرسالة كما أراد الله لها أن تكون عربية، وبما قدّر الله للبيان بأن يكون على لسان العرب. وقد كانت حروف البيان لمن نزل فيهم من أبسط الحروف وأقلها استعمالاً بين حروف البشر، بل وكان استعمالها عزيزاً بينهم، فأعزّها الله بعزّة قوله، وشرّفها بموافقتها منطوق وحيه، فلا فخر للعربية على سواها إلّا بهذا الكتاب وما سار على دربه ووافق شرعه من كِتابةٍ وانتهاجٍ. فكل نبي أُرسل بلغة قومه ليبيّن لهم تشريع العزيز الحكيم، كما أُنزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، على النبي العربي الأمي الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وميّزهُ ربّ العِزّة عن غيره بأن كان آخر الكتب السماوية، ويحمل خاتمة الرسالات الإلهية، فكان للعربية من ذلك حسن الخاتمة، وشرف الإفصاح عن المرجع الأخير، بتقديرٍ من خالق البشر العالم الخبير بمواطن اختلاف ألسنة البشر والتقاء أفهامهم على آياته، فلا فضل لعربي على أعجمي ولو كان فخراً بلغته - وقد كُتبت بحروفها آيات القرآن - إلّا بالتقوى، وما في القرآن من تفضيل حسب دعوة الإتباع، لأن معاني القرآن واضحة بيّنة، ويتساوى في فهمها العربي مع غيره بعد ترجمتها، كما أن تدبر القرآن ليس مقصوراً على العرب دون سواهم، أما التأويل وفهم المقاصد بعد التدبر والتحقق والتأمل فهو العلم والحكمة، ويؤتيه الله من يشاء من عباده.