للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس بجمعها، إذ ليس في أي من الأقوال حجة قوية على استخلاص المقاصد وتفردها بما في الفواتح من حكمة، ولا تقوم إحداها إلا بعضد الأخرى أو ضدها، كما أن أقوال أهل العربية ليس في أي منها حجة، لمخالفة الحروف أصل المعروف من كلام العرب - وهم من أقر بهذا - وإن كانت هذه الفواتح كما نعلم من حروف العرب، وأهل العربية حجة في بيان أصول النحو والصرف والبلاغة وأصول البيان، لكنهم ليسوا بحجة في تأويل كلام الله إذا لم يوافقوا هذه الأصول. كيف لا وقد جاءت هذه الحروف بنظم لم يأت به أحد ولم يقله إلا الواحد الأحد، ولم يكن هذا النظم للمخالفة أو لإعجاز الناس عن فهمها، بل لأن فيها بَيَاناً لم ينسبه أحد لنفسه من قبل ومن بعد - كما سيظهر لنا إن شاء الله - أما غير هذه الأقوال فلا حجة فيه البتة لعدم ثبوت الدليل القاطع والفكرة الواضحة ممن يعتد بقوله.

[الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح]

أما الأقوال فيما خص بعض هذه الفواتح كقول ابن عباس -رضي الله عنه- عن (ن والقلم وما يسطرون): النون هي الدواة (١)، أو النون هو الحوت (٢)، فهذه آثار ضعيفة وهالكة ولا حجة


(١) حديث أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة - بهذا اللفظ لتفسير النون بالدواة من حديث أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رواها ابن بطة في الإبانة (٣٣٥/ ٣) والفريابي في القدر (٢٩/ ١) وعنه الآجري في الشريعة (٥١٣/ ١) بسند ضعيف، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (١٧٣/ ٥) وابن عدي في الكامل (٢٦٩/ ٦) والصنعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص١٧٧) وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (رقم١٢٥٣): "إسناده باطل." أما الرواية عن ابن عباس فرواها ابن أبي شيبة (٣٤١/ ٨) وابن أبي حاتم (١٣٠٥/ ٤) بسند فيه مجهول، وابن جرير (٨٤/ ٢٢) وأبو نعيم الأصبهاني في أخبار أصبهان (١٠٩/ ٢) بإسناد ضعيف جدا من طريق ابن حميد، وعند الدينوري في المجالسة (٧٩/ ٤) بإسناد مظلم كما قال المحقق، ورواه ابن جرير (٥٢٥/ ٢٣) وعبد الرزاق في التفسير (٣٢٩/ ٣) بسند صحيح عن قتادة والحسن البصري.
(٢) زيادة ضعيفة على حديث صحيح رواه ابن جرير (٥٢١/ ٢٣) وابن أبي شيبة في العرش (ص٣٠٧) وعبد الرزاق في التفسير (٣٢٩/ ٣) وفي نسخة وكيع عن الأعمش (ص٥٦) وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (١٣٨٠/ ٤) والبيهقي في السنن (٣/ ٩) وابن منده في التوحيد (٩٣/ ١) والفريابي في القدر (ص٨٢) وعنه الآجري في الشريعة (٥١٩/ ١) والحاكم (٥٤٠/ ٢) وصححه ووافقه الذهبي. وهو من عدة طرق أشهرها عن أبي ظبيان عن ابن عباس موقوفاً ثم عن سعيد بن جبير وعن مجاهد عن ابن عباس، قال: (إن أول ما خلق الله من شيء القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) وزيادة عن أصل المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد» رواه الإمام أحمد (٣١٧/ ٥) وأبو داود (٦٣٧/ ٢) والترمذي (٤٥٧/ ٤) وابن أبي شيبة (٣٤٧/ ٨) والبيهقي في السنن الكبرى (٢٠٤/ ١٠) والبزار (١٣٧/ ٧) والطبراني (٤٣٣/ ١١) وابن جرير (٥٢٦ - ٥٢٧/ ٢٣) وأبو نعيم في الحلية (٢٤٨/ ٥) وابن بطة في الإبانة (٣٩٤/ ٣) والطيالسي في المسند (ص٧٩) وابن الجعد (٢١٥/ ٧) وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم ٢٠١٨و٢٠١٧)، أما الزيادة فهي الموقوفة على ابن عباس عند الرواة وبكلمات مختلفة جاء فيها: "والكتاب عنده، ثم قرأ {وإنه في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم} " وفي بعضها "ثم قرأ ابن عباس: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} " وفي غيرها "ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السموات" وفي أخرى "ثم رفع بخار الماء، ففتقت منه السموات" وفي غيرها "ثم خلق النون فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه." أيضاً "ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات، ثم خلق النون فدُحيت الأرض على ظهره، فاضطرب النون، فمادت الأرض، فأُثبتت بالجبال فإنها لتفخر على الأرض". وهذه الاختلافات الكثيرة أخرجت الزيادة عن أصل الصحة لأسباب كثيرة منها: أنها خالفت نص القرآن بقوله تعالى (كانتا رتقا ففتقناهما)، وأنها من خرافات الإسرائيليات المعروفة، وقد أورد هذا الأثر محمد أبو شهبة في كتاب الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير (ص٣٠٥) وقال: "والظاهر أنه افتراء عليه أو هو من الإسرائيليات ألصقت به"، والدليل هو أنها ذكرت بنفس السند مرة على أصلها ومرة بزيادات مختلفة بحسب تفسير الزيادة للآية المذكورة عندها، وأنها جاءت في كتب المصنفين كابن ابي حاتم نفسه مختلفة في رسم النون، فمرة (ثم خلق النور ومرة ثم خلق النون) وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني بنفس السند (١٠٣٢/ ٣) "خلق الثور" بدل النور والنون، دلالة على أنها من الحواشي المضافة على أقوال الرواة، ولما ورد في إحدى هذه الروايات عن مجاهد أنه قال: "كان يقال النون: الحوت الذي تحت الأرض السابعة" الطبري (٥٢٤/ ٢٣)، ولكون الأصل المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس جاء من باب الدلالة على الإيمان بالقضاء والقدر كما قال عبادة بن الصامت بعدها لابنه: "يا بني إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من مات على غير هذا فليس مني." وأورده الكثير من أهل الحديث في باب الإيمان بالقضاء والقدر كما في السنن، وجاء في كتاب الشريعة للآجري (٥١٠/ ١) "وقد خرجت هذا الباب في كتاب القدر، وأنا أذكره ههنا لتقوى به حجة أهل الحق على أهل الزيغ"، وقصد رد الحجة على من قال بخلق القرآن وأن هذا الحديث يثبت أن الكلام كان قبل الخلق. أما الغاية من الزيادات فجاءت للتفسير فقط ولسرد ترتيب الخلق وليس لذات الغاية في الحديث الصحيح، لذلك فلا حجة فيها.

<<  <   >  >>