للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمصريين والفينيقيين وأهل بابل من السومريين، إلّا عرب الجزيرة في ذلك الزمان. وقد وصَلنا ما كتبته تلك الأمم، سواء ما كان على الشواهد أو ما حُفظ في الكتب وما نقش على الجدران، لنعلم واقع العرب في ذلك الزمان، ولم يقتصر الأمر على الأمية، بل كان علم الكتابة فيهم وضيع وعديم لا يكاد يذكر، لا كما كان في الأمم حولهم، وهذا ما أثبته العرب أنفسهم وأثبته علم الآثار، فتكاد لا تجد من آثار عرب الجزيرة ما يتعدى أصابع اليد من نقوش، والهدف من البحث عنها أصلاً ما كان إلا لإثبات أصل الحروف العربية الحالية، بل وتجد في كتب علماء المسلمين من النسّابة ذكر من كان يعرف الكتابة بين العرب بالاسم! وكيف تعلموه وأين تعلموه. فأي واقع هم فيه؟ هذا من باب، ومن باب آخر كانوا أفصح الناس لساناً، لما كان في لغتهم من أصول ليست في غيرها من لغات الأمم من تصريف وإعراب وأساليب في البيان والتصوير، فكانت لغتهم أوْلى اللغات بحمل كتاب الله لهذا السبب ولأسباب عديدة، منها مثلا "أن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: {وإما تخافَنَّ مِن قوم خِيانةً فانْبذْ إليهم عَلَى سواء} [الأنفال: ٥٨] لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: (إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء) " (١)، والبلاغة في الشعر عندهم كانت مقياساً للشرف، كمقياس العلم في الأمم الأخرى، وفي هذا قال الجاحظ: "وليس في الأرض أمّةٌ بها طِرْق أَوْ لها مُسْكَة، ولا جيلٌ لهم قبضٌ وبسْط، إلاّ ولهم خطّ، فأمّا أصحاب الملك والمملكة، والسلطانِ والجِباية، والدِّيانة والعبادة، فهناك الكتابُ المتقَن،


(١) ابن فارس - الصاحبي في فقه اللغة ص١٣

<<  <   >  >>