للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقوال العلماء في بيع العنب لمن يعتصره خمراً

لما كان لهذه المسألة ظاهر وباطن اختلف العلماء فيها على أقوال ثلاثة: القول الأول: قول الثوري: الحل مطلقاً، واستدل على ذلك بالأثر وبالنظر, أما بالأثر فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥]، وهذا بيع وليس بربا, والعنب طاهر منتفع به.

والأصل العام في كل معاملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم الحل طالما السلعة تساوي ثمناً، فيقبض السلعة المشتري والثمن يقبضه البائع عن تراض، فيصح بذلك البيع, فإذا توافرت الأركان والشروط صح البيع.

القول الثاني: المنع مطلقاً، وهو قول الحنابلة وجمهور أهل العلم, فلا يجوز بيع العنب لمن يعتصره خمراً بحال من الأحوال, وأدلة هذا القول كثيرة، منها: حديث صريح في النهي عن بيع العنب لمن يعتصره خمراً, وهذا الحديث فيه كلام، والأدلة العامة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم في التأصيلات العامة حرم كل وسيلة توصل إلى محرم.

وأدلة هذا القول نوعان: الأدلة العامة من الأثر، والأدلة الخاصة من النظر, أما الأدلة العامة من الأثر: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن في الخمر عشرة)، وهو سيصل بالعنب إلى الخمر، فملعون من شربها، وملعون من أعطاها وأخذها وباعها وحملها ويسر على أخذها، وهذا اللعن يدل على الحرمة، والله جل في علاه بين أن مفاسدها أعظم من منافعها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة:٢١٩] وقالوا: هذا دليل عام.

والدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢]، وبيع العنب لمن يعتصره خمراً تعاون على الإثم والعدوان، فلا يصح هذا البيع لهذه الأدلة العامة.

والدليل الخاص هو دليل نظري، قالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد, وإذا كنتم اتفقتم معنا على أن بيع الخمر حرام فهذا مقصد محرم، والوسيلة إليه لا بد أن تحرم؛ لأن كل وسيلة توصل إلى محرم لا بد أن نحرمها, فالوسائل لها أحكام المقاصد, وإن كان في الأصل أنها على الحل.

هذا كلام الحنابلة.

القول الثالث: قول الشافعية وهو التفصيل، قالوا: لا نقول بالحرمة ولا بالحل, فإذا علم البائع أن المشتري سيعتصره خمراً فهو حرام, والأصل في البيع أنه على التراضي.

أما أدلتهم في الحرمة فهي أدلة السابقين، وأما أدلتهم على الكراهة، فقالوا: ظاهر البيع الحل, وهو لا يعتقد اعتقاداً جازماً أن الذي سيشتري منه العنب سيعتصره خمراً، ولذلك قلنا: يمكن أن يكون وسيلة لأن يعتصره خمراً, فلما شك ولم يجزم قلنا بالكراهة ولم نقل بالتحريم.

والراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو قول الحنابلة، وهو قول أشار إليه النووي، وهو حرمة بيع العنب لمن يعتصره خمراً, فإذا قلت بالحرمة فإن هذه الحرمة تتعدى إلى كل ألوان البيوعات التي يصل بها المشتري أو البائع إلى ما كان محرماً تجنباً للشر، كاستئجار امرأة لتغني -وفي الأعراس كثيراً ما يأتون بالفرق لتغني- فهذا الاستئجار لا يصح, وكلها معاملات وفرع من الأصل، والإيجار من البيوع.

أيضاً: بيع الأسلحة في الفتنة لا يجوز؛ لأنها من باب الوسائل ولها أحكام المقاصد.

أيضاً الوسيط في معاملة ربوية وإن كان ظاهرها الحل والشافعي يقول بصحتها، لكن الجماهير وشيخ الإسلام يرى الحرمة في ذلك, كأن تأتي برجل لا يعرف شيئاً في التجارة، وليس له ثمة بيع ولا شراء، وتقول له: اشتر لي هذه الثلاجة وأنا أشتريها منك بالتقسيط، يشتريها لك بألف نقداً وتشتريها أنت منه تقسيطاً بألف ومائة أو ألف ومائتين، فهذه الراجح والصحيح فيها أنها حرام وأنها من الربا، وهي كما قال فيها ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: ذهب بذهب بينهما حريرة, فهذا الراجح والصحيح أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

إذاً: الشافعية قالوا: إن اعتقد أن المشتري سيعتصرها خمراً فيحرم عليه البيع، وإن شك فعلى الكراهة، أما الحنابلة فقد قالوا بالتحريم على الإطلاق شك أو لم يشك.

مثال ذلك: الملابس التي ترتديها المرأة إلى الركبة هل يجوز أن يبيعها المرء للنساء؟ المسألة فيها تفصيل: إن شك أو غلب على ظنه أن المرأة سوف تشتري هذا الزي لتتبرج به أمام الرجال فهذا البيع حرام، والحرمة ليست لذات البيع, لكن للمقصد، لكن لو جاءت امرأة منتقبة محترمة تحفظ دينها وتشتري هذا الزي, وأنها ستلبسه لزوجها, فيحل البيع هنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>