للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الراجح في حكم مسألة ضع وتعجل]

الترجيح في هذه المسألة: أنه تجوز مسألة ضع وتعجل، كما قال ابن تيمية وابن القيم: يجوز وضع المال عن امرئ عليه مال لم يحن وقته، على أن يأخذه نقداً ولا يفرقه.

والدلالة على أن هذا هو الراجح: أولاً: أن الأصل في المعاملات الحل إلا أن يأتي ناقل {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥]، فالأصل في المعاملات الحل ما لم يدل الدليل على التحريم، ولم يرد دليل صحيح صريح يحرم لنا هذه المعاملة.

ثانياً: أن حديث ابن عباس الذي ورد في المسألة نص في النزاع لولا أن في السند ضعفاً، وهذا الضعف يمكن أن يجبر بشاهد رواه البخاري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه تقاضى بعض الصحابة ديناً، وعلت الأصوات في المسجد، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: (أن ضع من دينك هذا، فأومأ إليه أن قد فعلت يا رسول الله، فأقر بما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم)، هذا يقول أعطني مالي، والثاني يقول: حان الأجل وليس عندي مال فأنا معسر، وقال له يقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار بيده أن ضع الشطر، فقال: يا رسول الله! قد قبلت، فقبل أن يضع الشطر، فبعدما قبل ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه، أي: أعطه المال، فهذا يشهد لحديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

لكن يمكن أن يرد على حديث ابن عباس إيراد قوي جداً وهو: أن هذا يخالف ظاهر المسألة، إذ حديث ابن عباس فيه أن الأجل لم يحن، لكن هنا قد حان الأجل، فليس بشاهد.

لكن رد هذا بأن الأجل قد حان لكن يجب عليه إن كان معسراً أن ينظره إلى أجل آخر {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:٢٨٠]، فأسقط ما عليه للإعسار، وينظره إلى وقت آخر.

إذاً: هذا الإيراد مردود؛ لأنه كان يجب على كعب أن ينظره إلى وقت آخر، ويضرب له أجلاً آخر، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسقط شطر مالك)، لم ينظر هذا الرجل، وقال له: قم فاقضه، إذاً: هنا إسقاط الإنظار، وكان محل حديث ابن عباس أنه لم يحن الأجل، فـ ابن عباس في حديثه الأجل لم يحن، فقال: ضعوا المال وتعجلوا الأجل، لكن هذا الحديث لا يشهد لـ ابن عباس بأن الأجل قد حان وهو يستحق أن يأخذ المال، لكن الرجل كان معسراً فيجب إنظاره لوقت آخر، فكأنه نزل منزله أن الأجل لم يحن، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط الأجل للآخر الذي سيضرب من أجل الإنظار قال: أسقط من مالك واجعله يعجل لك ولا تنظره، فهذا الإيراد مربوط بهذا التأويل، على أن الأجل الذي لا بد أن ينظر فيه فقط، فيجب على الآخر أن يقضيه في نفس الوقت، ويكون شاهداً صحيحاً لـ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

وإن لم نقل بذلك قلنا: الأصل في المعاملات الحل، ولم يرد أي دليل على الحرمة غير قول ابن عمر وزيد، وقد عارضه قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

ثالثاً: أن هذا من باب الصلح، والصلح بين المسلمين جائز مندوب، إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً؛ لقول الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:١٢٨].

رابعاً: أن هذه المعاملة توافق مقاصد الشريعة؛ لأن الشرع جاء بالإرفاق: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، ففيه إرفاق بالمدين لإسقاط بعض المال عنه، وفيه إرفاق بالدائن بتعجيل المال له لينتفع بعد ذلك بالتجارة في هذا المال؛ لأن الربا يتضمن الزيادة مع التأخير، وهذا فيه ظلم، والتعجيل أو الحطيطة فيها النقصان مع التعجيل.

فهذه أدلة توضح جواز هذه المعاملة، وهذه تكثر عندنا مع الذين يبيعون السلع بالتقسيط.

وعلى ترك الخلاف في التقسيط جانباً -لأن الجمهور قالوا بالجواز وخالفهم في ذلك بعض الشافعية وبعض المالكية- لو باع رجل سلعة بالتقسيط وله المال منجماً، واحتاج هذا التاجر مالاً كثيراً ليستورد به بضاعة حتى يستفيد منها، وليس عنده مال، فأراد أن يأخذ هذا المال من الذين اشتروا منه هذه السلعة بالتقسيط، فقال أعرض عليكم عرضاً: عجلوا لي بالمال، وأنا أضع عنكم الشطر أو بعض المال، فهذه المعاملة تفيد المسلمين جداً، وفيها إرفاق بالدائن وبالمدين، وهي من باب الصلح والإبراء وإسقاط بعض الحق ليستوفي الرجل الحق الذي له، وفيها تيسير على المسلمين، فهي جائزة على ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو قول للشافعي نقله عنه ابن عبد البر في الاستذكار، وأيضًا هو رواية عن أحمد رحمه الله، والخلاف بين الجمهور لا دليل عليه صريح للتحريم، والأصل في المعاملات الحل.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>