للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال النظام: «إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة، لبيان الأحكام: من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك.

وهذا هو المذهب المعروف بمذهب الصرفة، وهو مذهب باطل لوجوه:

أولها: أنه لو لم يكن معجزا لما فيه من ألوان البلاغة وفنون البيان، لكان إذا نزل في درجة البلاغة، وانحط في مرتبة الفصاحة، أبلغ في الأعجوبة، إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ولما عنى أن يكون على هذا النظام العجيب، وأن يظفر من الفصاحة بأوفى نصيب (١).

ثانيها: أنهم لو كانوا قد صرفوا عن معارضته، لم يكن من قبلهم من العرب مصروفين عنه؛ لأنهم لم يتحدوا به، فكان من الجائز أن نعثر في كل العرب الأقدمين على ما يشبه القرآن، وذلك ما لم نجده في تاريخ أدبهم (٢).

ثالثها: أنه لو كانت المعارضة ممكنة، ولكنهم منعوا منها بالصرفة، لم يكن الكلام معجزا، إنما يكون المنع معجزا، فلا يتضمن الكلام في نفسه فضيلة على غيره (٣) فيصبح في مكنة العظماء والبلغاء- بعد زمن التحدى- أن يأتوا بمثله، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فقد أتى جهابذة الكلام بعده بما في وسعهم أن يأتوا، واهتدى العلماء إلى تبيين أسباب الجمال في القول، ولكن لم يستطع أحد أن يدنو من هذا المكان البعيد، أو يقارب هذا الأفق المتسامى، وكلما اهتدوا إلى سر من أسرار الفصاحة، ازدادوا إيمانا بالضعف والعجز أمام كتاب الله.

رابعها: أنه لو كان عجز العرب عن المعارضة بالصرفة، لما استعظموا بلاغة القرآن، وتعجبوا من حسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: «إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة» (٤).

بل كان الجدير بهم أن يتعجبوا من تعذر ذلك عليهم، بعد أن كانوا عليه قادرين (٥) ولم يكن لتعجبهم لفصاحته وجه، فظهر من كل ما تقدم فساد هذا المذهب.

كما لا نقبل قول من قال إن وجه الإعجاز في نظم القرآن، أنه حكاية عن كلام الله القديم، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله معجزات، فى النظم والتأليف وما قال بذلك أحد، ولا ذكرته تلك الكتب نفسها،


(١) إعجاز القرآن ص ٣٢.
(٢) المرجع السابق نفسه.
(٣) المرجع السابق ص ٣٣.
(٤) الطراز ص ٣٩٤.
(٥) نهاية الإيجاز ص ٥.

<<  <   >  >>