للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نظم القرآن فلا انحطاط في جميع ما يتصرف فيه عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا.

ومن ذلك أن المعانى التى جاء بها القرآن، وتعالج أحكام الشريعة، والاحتجاج فى الدين، والرد على المتحدّين، قد اتسقت في أسلوب بديع يتعذر على البشر؛ لأنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعانى المتداولة المألوفة أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع

في المعنى المتداول.

ومن ذلك أن الكلام يبين فضله، ورجحان فصاحته، بأن يذكر في تضاعيف كلام، فتأخذه الأسماع، وتتشوق إليه النفوس، ويرى وجه رونقه باديا، غامرا سائر ما يقرن به، كالدرة التى ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في وسط العقد، وأنت ترى الآية من القرآن، يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهى غرة جميعه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه، بتميزه وتخصصه برونقه وجماله.

وجه الإعجاز الحق إذا هو ما اتسم به القرآن من بلاغة، تحير فيها أهل الفصاحة من العرب، وأعيان البلاغة من بينهم، فسلموا، ولم يشغلوا أنفسهم بمعارضته؛ لعلمهم بالعجز عن بلوغ مداه، وقوله تعالى حكاية عنهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (الأنفال ٣١). يحمل دليل عجزهم، فلو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم: من القدرة على المجيء بمثل القرآن، لتجاوزوا الوعد إلى الوفاء بما ادعوا، فلما لم ينجزوا ما وعدوا، علم عجزهم وقصور باعهم (١).

ولما كانت البلاغة سر هذا الإعجاز، وجب أن نلتمس أسبابها، وندرك مظاهرها، ونضع اليد على الخصائص التى تعرض في نظم الكلم، حتى لا نكون مقلدين فيما نعلم، وحتى تكون معرفتنا معرفة الصانع الحاذق، الذى يعلم كل خيط من الإبريسم الذى في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الآجر الذى في البناء البديع (٢).

...


(١) راجع من ادعى معارضة القرآن وما عورض به في كتاب إعجاز القرآن للرافعى من ٢٢٨ وما يليها.
(٢) دلائل الإعجاز ص ٣١.

<<  <   >  >>