للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

افترى الكذب على الله، فنسب إليه كلاما، لم ينزل به وحى عليه، فقال في الرد عليهم، هاتوا كلاما كاذبا كهذا الذى أتيت به، فهو لم يتحداهم بالأساليب اللفظية فحسب، ولكن تحداهم بما في القرآن من معان وخواطر، فلو أن المعانى والخواطر التى يجيئون بها كانت خاطئة أو كاذبة، ما صح أن تكون سورا مثل سور القرآن.

وذهب بعضهم إلى أن وجه الإعجاز هو خلو القرآن من التناقض (١)، وذلك غير مقبول أيضا؛ لأن الإجماع منعقد على أن التحدى واقع بكل سورة من سور القرآن، وقد يوجد في كثير من الخطب والشعر وغيرها ما يكون في مقدار السورة خاليا من التناقض.

أما الوجه الذى نرتضيه لإعجاز القرآن، فهو ما يتحقق في كل قدر من القرآن، تحدى به «وهو أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه (٢)» وقد شعر العرب أنفسهم بما في القرآن من سمو عن قول البشر، فنسبوه إلى السحر، فكأنهم يقولون إن القرآن لا يستطيع أن يقوله إلا من أوتى قوة خارقة، وليست من جنس قوى البشر، وقد وازن الباقلانى (٣) بين القرآن وكلام العرب في وجوه، نجمل بعضها فيما يلى:

فمن ذلك أن نظم القرآن خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، فليس من الشعر، ولا من النثر المرسل، ولا المسجوع، وإذا كنت أخالف الباقلانى في نفى السجع عن القرآن، وأرى في بعض آية سجعا، فإنى أرى سجع القرآن يتخذ منهجا خاصّا به، لا يشركه فيه سواه، كما سنبينه عند دراسة أسلوب القرآن.

ومن ذلك أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا القدر من الطول، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة.

ومن ذلك أن عجيب نظمه لا يتفاوت على ما يتصرف فيه من الوجوه: من قصص، ووعظ، واحتجاج، وحكم، وأحكام، ووعد، ووعيد، ووصف، وتعليم أخلاق كريمة، وغير ذلك مما حواه القرآن، بينما نجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف باختلاف الأغراض، فمنهم من يجيد في الوصف دون الغزل، ومن يحسن إذا رغب، والآخر إذا طرب، وغيرهما إذا ركب، أما


(١) الطراز ج ٣ ص ٣٩٧ ونهاية الإيجاز ص ٦.
(٢) إعجاز القرآن ص ٦٨.
(٣) المرجع السابق ص ٣٨ وما يليها.

<<  <   >  >>