فقد بدأت حديثها معه تناديه باسمه، نداء القريب، الذى لا كلفة بينك وبينه، مشعرة إياه بشدة الصلة بينهما، حتى لكأنها توحى إليه، بأن هذه القرابة القريبة ما كانت تنتظر على يده هذا المصير، ثم انتبهت إلى مكانة الرسول في قومه، فنادته واصفة بما يتفق مع هذه المكانة، وكأن قلب الأم، الذى في كل أنثى، دفعها إلى أن تصفه بأنه خير ابن، لأم كريمة في قومها، وأب عريق في الشرف، حتى إذا انتهت من استرعاء سمعه، بهذا النداء، أخذت تسأله سؤال الموجع، الموقن بأن حكم القضاء قد تم، ولا سبيل إلى
استرجاعه، فاستخدمت لذلك هذا الاستفهام الحزين، الموحى بأنه لم يكن ثمة خطر في إطلاقه، فضلا عما في هذا الإطلاق، من مكرمة المن. وأتت بكلمة «لو» المشعرة بالأسف، لدلالتها على امتناع وجود الفعل، وما كان أدق ذوقها في اختيار كلمة «ربما» الدالة على حسن الأدب، والتماسها العذر للرسول، وتلميحها إلى ما في العفو، برغم الغيظ والحنق، من مثل أعلى، جدير بالاقتداء، حتى إذا انتهت من ذلك، لمست من الرسول صلّى الله عليه وسلم موضع العطف، فذكّرته بقربه منه، واستحقاقه أن يظفر برعايته، ثم انتقلت من ذلك إلى تصوير هذا القريب، الجدير بالود، أو بالمنّ، والعتق- هدفا لسيوف أقربائه، تتناوله بأطرافها، فتمزق بتمزيق أديمه، القرابة وتقطع أواصرها.
وهكذا، كان كل جزء له أثره، فى نقل هذه التجربة التى ملكت نفس قتيلة، ونجحت في إيصال ألمها للسامع، حتى روى أن الرسول بكى، وقال: لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.
نستطيع أن نسمى التجربة التى تسيطر على الأديب، وتدفعه إلى التعبير عنها بالإلهام، وكلما عظم هذا الإلهام، احتاج إلى قوة كبيرة، تستطيع التعبير عنه تعبيرا يمثله تمثيلا صادقا، ولذا كان كبار الأدباء ذوى سلطان على اللغة، وقدرة قديرة على التعبير، فاستطاعوا أن ينقلوا إلينا من التجارب أعظمها وأسماها.
وإن لدى الأديب إحساسا لغويّا ممتازا، يستطيع به أن يختار من الألفاظ ما هو قوى في تصويره، واضح في دلالته على مراده، ويدرك ما تستطيع الألفاظ أن توحى به إلى القارئ، وإن للألفاظ لوحيا يشع منها، فيملأ النفس شعورا، ويثير الوجدان، ويحرك العاطفة، ذلك أن الألفاظ قد تراكم حولها بمضى الزمن والاستعمال، معان أخرى، أكثر من هذه المعانى التى نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معانى الألفاظ في المعاجم، سوى هذه المعانى المتبلورة، والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان، أضفاها عليها الزمن، فتثير