فى النفس أعمق الإحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور، وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معانى كلمات: أم طفولة، ومدرسة، ووطن، مثلا، فالأم في اللغة هى الوالدة، ولكن هذا اللفظ يثير في النفس، إذا سمع، أسمى معانى الحب وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معانى الحنان، وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر، التى تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة، وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هى في المعجم مكان الدراسة، أما كلمة الوطن، فقد تراكم حولها من المعانى والذكريات ما أشار ابن الرومى إلى بعضه حين قال:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب، قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصبا فيها، فحنوا لذلكا
فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة، وإن أردت أن تدرك شدة وحى الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (الحجرات ١٢). وانظر أى كراهية ونفور، يثيره في النفس، تخيل أكل لحم الأخ ميتا، واقرأ قول الشاعر:
نزلنا دوحة، فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
وانظر ما توحى به إلى النفس «لفحة الرمضاء» فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن، يلفح وجهك، ويرمض عينيك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه هذه السخونة الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادى عليه، فقد حماه من وهج الشمس، وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه، أن يسقيه «مضاعف الغيث». وانظر ما توحى به إلى خيالك كلمة «دوح» من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس، بعد لفحة الرمضاء، وتخيل «حنو المرضعات» وما يثيره من معانى العطف والحنان، أما «أرشف» فتوحى إليك بهذه المتعة، التى يحس بها الظمآن، لفحه حر الشمس، فأوى إلى ظل ظليل وأخذ يشرب على مهل، يستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ، ألذّ من المدامة،