للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خلقت لأجله، وزاد الإنسان مزية بأن وضع له عقلا يمكنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه، ووضع له فى عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشر، كما قيض له دعاة إلى الخير تنبهه إليه إن ضلّه عقله، أو حجبته شهوة، فإن هو لم يرعو عن غيه، فقد خان نفسه وبهذا ظهر تخليط أهل الضلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله، فلذلك رد الله عليهم هنا قولهم:" لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا" لانهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة الله تعالى، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئة فى قوله:" ولو شاء الله ما أشركوا" فهى مشيئة تكوين نظام الجماعة.

فهذه المشيئة التى اعتلوا بها مشيئة لا تتوصل إلى الاطلاع على كنهها عقول البشر، فلذلك نفى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها فقال:

" كذلك كذب الذين من قبلهم" فشبه بتكذيبهم تكذيب المكذبين الذين من قبلهم، فكنى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجة تكذيب النبى- صلى الله عليه وسلم- وليس فى هذه الآية ما ينهض حجة لنا على المعتزلة، ولا للمعتزلة علينا، وأن حاول كلا الفريقين ذلك لأن الفريقين متفقان على بطلان حجة المشركين وفى الآية حجة على الجبرية (١).

ومفاد هذا الكلام أن ابن عاشور قد ذهب فى تفسيره لهذه الآية إلى أن الله سبحانه قد وضع نظاما للعالم اقتضت حكمته تعالى أن يجعل حجابا بين تصرفه فى أحوال المخلوقات وبين تصرفاتهم وفق مشيئتهم، أو بمقتضى إرادتهم وفق ناموس ارتباط المسببات والموجودات، وقد يطلق على ذلك (الكسب والاستطاعة) عند الأشاعرة، أو (القدرة) عند المعتزلة.

والإنسان فى حساب هذا الناموس الإلهى مسئول عن أفعاله ليصح التكليف، ويرفض ابن عاشور هذه المعاذير التى يتذرع بها بعض عوام المسلمين


(١) التحرير والتنوير ج ٨ ص ١٤٧.

<<  <   >  >>