موسى وقومه، مثل تفجير العيون من الصخر الأصم، وتظليل الغمام لهم في الصحراء المحرقة، وإنزال الغذاء اللذيذ من المنّ والسلوى، وكلها معجزات غيبيّة، تدلّ على فضل الله عليهم، ولكن اليهود جحدوا هذه النعم كما هي طبيعتهم دائما، حين أبوا أن يدخلوا المدينة على هيئة محددة، فبدّلوا وعصوا، فاستحقوا العذاب من السماء، يقول تعالى في عذابهم:
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ الأعراف: ١٦٢، فالسماء كما كانت مصدر النعم، هي مصدر العذاب أيضا.
ثم تصوير احتيالهم على النصوص، وتأويلها بما يتفق مع أهوائهم، فمسخهم الله قردة وخنازير كل هذه الأحداث، حلقات جديدة من القصة تعرض هنا، مترابطة مع الحلقات الأخرى، لتكوّن قصة موسى، في بنائها الموحّد.
والقصة الوحيدة التي عرضت كاملة هي قصة «يوسف» من حيث بناؤها الفني المكتمل بحوادثها التاريخية المتسلسلة وشخصياتها المتبانية والكثيرة، والصراع، والمنافسة، والحبكة القصصية الممثلة في نمو الأحداث حتى تصل إلى ذروة التعقيد أو العقدة القصصية، ثم في انفراج الأحداث نحو الحل، بالإضافة إلى عنصر الحوار، ودوره في تصوير الشخصيات، والعواطف البشرية، وعنصر التشويق، والمفاجأة أو الإثارة الفنية.
وتبدأ الأحداث بالتمهيد لها برؤيا يوسف إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ... يوسف: ٤.
والتمهيد للقصة طريقة متبعة في كثير من القصص القرآني، وبعد هذا التمهيد، تبدأ أحداث القصة متوالية في مشاهد قصصية متلاحقة، بينها فجوات فنية، مقصودة ليملأها الخيال، ويستمتع باستحضارها في مواضعها.
وتبدأ الأحداث من مشهد يوسف الصبي، يقص رؤياه على أبيه، وأبوه يطلب منه أن يكتم هذه الرؤيا عن إخوته. ثم يبدأ المشهد الثاني بإخوة يوسف، يتآمرون عليه حسدا وغيرة. ثم في المشهد الثالث، نرى أن المؤامرة ضده قد حبكت، واستطاعوا أن يحتالوا على أبيهم لاصطحابه، وفي المشهد الرابع نرى تنفيذ المؤامرة بإلقائه في الجب، وتبدأ محنة يوسف في أهوال الجب وظلامه، ولك أن تتخيل حالته النفسية والحسية وهو في قاعه العميق وحيدا.