فجمال هذه الصورة لا يرجع إلى الاستعارة فحسب بل يرجع أيضا إلى جمال نظمها، وجمال التخييل الحسي فيها، ويظهر ذلك في إسناد الفعل «اشتعل» إلى الرأس، وهو في الأصل للشيب، وبين الشيب والرأس علاقة وتلازم، وبذلك تحقّق الصورة الاشتعال للشيب في المعنى، والاشتعال للرأس في اللفظ بالإضافة إلى ما يوحيه الإسناد من العموم والشمول للرأس كلّه وقد عمّه الشيب من نواحيه جميعا.
والصورة تدع الخيال أيضا يشارك في تأمل صورة اشتعال الرأس بالشيب، من خلال حركة الاشتعال المضمرة، وما فيها من لمعان لون الشيب، وبذلك تلامس الصورة حس الإنسان كما تثير خياله.
وقد يتّخذ التخييل الحسي طابع «التشخيص» وهو خلع الحياة على الظواهر الكونية والأشياء الجامدة والانفعالات الوجدانية. فيتحول الوجود إلى أشكال حية، أو أشخاص
متحركة لكي يتفاعل معها الإنسان، ويتجاوب مع الحقائق المبثوثة فيها، فتحدث الصلة القوية بين مظاهر الوجود، والإنسان، وهذه الصلة بينهما تكمن في الحياة السارية في كليهما، فلا يحدث التصادم بين الإنسان وهذا الوجود، بل تحدث الألفة والمودة، لأنها ألفة الحياة، ومودة الأحياء.
وهكذا نلاحظ أن الطريقة التصويرية في القرآن تعتمد على تشخيص الليل والنهار وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ التكوير: ١٧ - ١٨، ووَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ الفجر: ٤، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً الأعراف: ٥٤، فالليل والنهار فيهما الحركة والحياة، فالليل مرة شخص يعسّ في الظلام، ومرة شخص يسري أو يسافر فيه، ومرة ثالثة، مدرك عاقل يطارد النهار ويسابقه وينافسه ليلحق به.
أما الصبح فهو شخص حيّ يتنفس كما يتنفس الأحياء، ولكنّه يتنفّس عن الحركة والحياة والضياء.