للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ العاديات: ١ - ١١، فصورة الخيول الضابحة القادحة بحوافرها، والمغيرة في الصباح، والمثيرة للغبار، والمفزعة للعدو، تتّخذ مطلعا ممهّدا للذهن، لتأمل صورة الإنسان الجحود الكنود، الشحيح، المحب للمال، وبين صورة الإنسان والمطلع علاقة وارتباط.

فالإنسان في حركته السريعة لجحود نعمة ربه، وحركته اللاهثة وراء المال، تشبه حركة الخيول السريعة في جريها، الضابحة بأصواتها، القادحة بحوافرها، والمثيرة للغبار من حولها، فكما أنّ صورة الخيول تشبه حركة الإنسان في الدنيا، كذلك تشبه علاج هذا المرض فيه، وذلك بتذكيره، ببعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور يوم القيامة.

فنلاحظ امتداد المطلع بجوّه المعفّر بالغبار والتراب، وحركة نبش الأرض بحوافر الخيل، ليصل إلى حركة بعثرة القبور، وحركة البعثرة تتمّ من الداخل إلى الأعلى، كذلك حوافر الخيل تنبش التراب من تحت حوافرها بحركة شديدة عنيفة مماثلة في اتجاهها، لحركة بعثرة القبور. وحركة تحصيل ما في الصدور شديدة أيضا. مرتبطة بالشدة والعنف في المطلع، كما أنّ حركة التحصيل تتمّ من الداخل إلى الخارج، وكذلك حركة حوافر الخيول في نبشها الأرض من الداخل إلى الخارج أيضا.

وبعد هذه الحركة العنيفة في المطلع وجوّ الصور، تأتي الخاتمة هادئة بعد العنف، مستقرة بعد الحركة السريعة وكأنها اللازمة الباقية إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.

وإذا أخذنا سورة «النبأ» وهي أكبر من السورة السابقة، نلاحظ أن الوحدة الفنية في التصوير واضحة فيها. فكلّ الصور فيها، مشدودة إلى صورة المطلع التي هي المحور الذي تشكّلت من حوله الصور الأخرى ويبدأ المطلع بالاستفهام عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ .. النبأ: ١ - ٢، وذلك لإثارة الذهن، وتهيئته لاستقبال النبأ العظيم وهو يوم القيامة.

ثم بعد ذلك ينتقل التعبير إلى الواقع الحسي أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً .. النبأ: ٦ - ٧، فصور الأرض المهاد، والجبال الأوتاد، والنوم السبات، والليل الساتر، والنهار المعاش، والسماوات الشداد والسراج الوهاج، والمطر الثجّاج، والنبات الطالع، والجنات الألفاف، كلها تعرض هنا كدلائل وبراهين على النبأ العظيم الوارد في المطلع.

ثم يعود السياق إلى مشاهد مصوّرة، لأحداث النبأ العظيم، فيبدأ بالنفخة في الصور

<<  <   >  >>