للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فسمع للأسارى [وهم في سفن الإفرنج] من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين ما قطع الاكباد، وذرفت له العيون وأصم الاسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون».

وأما هذا الحدث الجلل فقد صدرت مراسيم إلى نائب السلطان في الشام «بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب».

فماهو موقف العلماء وما هو حكم الشريعة في مثل هذا؟ الإفرنج يعتدون على المسلمين في الإسكندرية، والمسلمون يأخذون ربع أموال النصارى ويهينونهم، فهل هذا جائز في شريعة الإسلام؟

يقول ابن كثير: «ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعاً»، ثم يحكي عن زيارته لنائب السلطان، وأنه قال له: «هذا لا يجوز اعتماده في النصارى .. هذا مما لا يسوغ شرعاً، ولا يجوز لاحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية ملتزمين بالذلة والصغار، وأحكام الملة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد - الفرد - فوق ما يبذلونه من الجزية»، ثم ذكر ورود الأمر من السلطان برد الأموال لنساء النصارى دون الرجال، فعقب عليه ابن كثير بما يدل على فرحه المنقوص لعدم إرجاع الكل، فقال: «وإن كان الجميع [أي ما أُخذ من الرجال والنساء] ظلماً، ولكن الأخذ من النساء أفحش وأبلغ في الظلم» (١).

لقد كان التاريخ خير شاهد على التزام المسلمين بالجملة بالمحافظة على دور عبادة أهل الكتاب المبادئ، ويمكننا الاطلاع على شهادته بتقليب بعض الصفحات التي سجلها مؤرخو الغرب والشرق عن سماحة المسلمين مع مواطنيهم، وبخاصة فيما يتعلق بسلامة دور العبادة ومن فيها.

يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة: المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم" (٢).

وينقل ترتون وأرنولد شهادة مهمة للبطريك النسطوري يشوع ياف الثالث (عيشو يابه)، سجلها في رسالته إلى سمعان مطران ريفارشير ورئيس أساقفة فارس: " وإِن العرب الذين منحهم الله سلطان الدنيا .. ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس، يعطفون على ديننا، ويكرمون قسسنا وقديسي الرب، ويجودن بالفضل على الكنائس والأديار" (٣).


(١) البداية والنهاية (١٤/ ٣٥٨ - ٣٦١).
(٢) قصة الحضارة، ول ديورانت (١١/ ١٣١).
(٣) الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص (٧٩)، وأهل الذمة في الإسلام، ترتون، ص (١٥٩).

<<  <   >  >>