للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأُحرق بعض كنيسة اليعاقبة»، وهكذا فإن ما وقع من أحداث مؤسفة كان ردة فعل من المسلمين لما حصل قبل من النصارى، ولم يكن موقفاً دينياً، سببه اختلاف الأديان؛ بدليل ما يقوله ابن كثير في تتمة الخبر: «وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم: إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان» (١).

وفي أحداث سنة ٧٤٠هـ يحكي ابن كثير عن حريق كبير وقع في دمشق أتى على سوقها ومئذنة مسجدها والكثير من المساكن والمدارس، وسببه «أن جماعة من رؤس النصارى اجتمعوا في كنيستهم وجمعوا من بينهم مالاً جزيلاً، فدفعوه إلى راهبين قدما عليها من بلاد الروم، يحسنان صنعة النفط .. ولما تحقق نائب السلطنة أن هذا من فعلهم؛ أمر بمسك رؤوس النصارى، فأمسك منهم نحواً من ستين رجلاً، فأخذوا بالمصادرات والضرب والعقوبات وأنواع المثلات، ثم بعد ذلك صلب منهم أزيد من عشرة على الجمال» (٢) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولا يرتضي الإنصاف أن نقارن أمثال تلك المشكلات العارضة بملابساتها الظرفية مع ما يحكيه تاريخ النصارى في معاملتهم لإخوانهم في الدين والمعتقد حين خالفوهم في بعض القضايا، ومن ذلك ما حكاه المؤرخ النصراني ساويرس ابن المقفع، فقد ذكر بأن هرقل أوصى جيشه فقال: «إن قال أحد: إن مجمع خليقدونية حق؛ فخلوه، ومن قال: إنه ضلال وكذب؛ أغرقوه في البحر .. ثم إن هرقل أقام أساقفة في بلاد مصر كلها إلى أنصنا، وكان يبلي أهل مصر بلايا صعبة، وكمثل الذئب الخاطف كان يأكل القطيع الناطق ولا يشبع» (٣) وحكى ابن المقفع صورة من هذا العذاب بما تعرض له الأب مينا أخو البابا بنيامين، فقد "نزل عليه بلايا عظيمة، وأشعل في جنبيه المشاعل؛ حتى خرج شحم كِلاه من جنبه، وقلع أضراسه وأسنانه باللكم لاعترافه بالأمانة"، وذلك كله قبل إغراقه في البحر (٤).

وبمثل هذه الفظائع تحدث التاريخ عن قرار المجمع الكاثوليكي المقدس عام ١٥٦٨م بإعدام جميع سكان هولندا، ولم يستثنِ القرار من الثلاثة ملايين الساكنين في هولندا إلا بعض الموافقين للكنيسة، والذين ذكرهم القرار بأسمائهم (٥).

وكان هذا المجمع قد أصدر قراراً عام (١٤٨٦م) باسم البابا أنوسنت الثاني يبيح اغتصاب الهراطقة المسيحيين وقتلهم (٦).

وقد تم تنفيذ مجازر تشيب لهولها الوِلدان، كمذبحة قرية بيزيريس (١٢٠٩م)، حيث عزم البابا أنوسنت على تطهير جنوب فرنسا من الهراطقة، ولما كان سكان القرية مزيجاً بين الكاثوليك والكاثريين، ولم يمكن للقائد التفريق بينهم؛ فقد اقترح رئيس الدير


(١) البداية والنهاية (١٣/ ٢٥٤ - ٢٥٦).
(٢) المصدر السابق (١٤/ ٢١٦ - ٢١٧).
(٣) تاريخ البطاركة، ساويرس ابن المقفع (١/ ٥٧٢ - ٥٧٤).
(٤) المصدر السابق (١/ ٥٧٢)، وقد دفع هذا كله الأقباط إلى تأييد المسلمين والترحيب بهم للخلاص من إخوانهم الرومان. انظر موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (٢٦٧)، بل ذكر ابن المقفع إلى أن البابا بنيامين دعا لعمرو بن العاص بالغلبة والنصر. تاريخ البطاركة (١/ ٥٧٥).
(٥) مختصر تاريخ الكنيسة، أندرو ملر، ص (٦١١).
(٦) المصدر السابق، ص (٣٨٢).

<<  <   >  >>