الوجه التاسع والأربعون: أن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف، قال تعالى:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) . وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره، فقال:(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون) . ذكر هذا جواباً لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلاً على صدقه فضلاً عن أن يكون كافياً، وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهاناً على صحة النبوة، والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه، فلو عارضه العقل، وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافياً للأمة ولا كان تاماً في نفسه. في مراسيل أبي داود (١) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم. أُنْزل على نبي غير نبيهم، فأنزل الله عز وجل:(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . وقال سبحانه:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) . فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى منها حرج، ونسلم لحكمه تسليماً فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذي يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن
(١) حسنه الألباني في مشكاة المصابيح (١٧٧) لطرقه وشواهده.