تجارب كانوا بها ذوى قدرة على الأحكام، وهم يفضون إلى ذويهم في أواخر أعمارهم بما لهم وبما عليهم، يرجون لهم الخير من بعدهم، ويودعونهم نتائج تجاربهم، صفوةً مختارة من القول في شئون الدين والدنيا، يبصرونهم فيها بحياتهم، وبتليدهم الذي صار إليهم، وقد صاروا إليه.
وإن المنهج الذي سار عليه تصنيف كتاب الوصايا هو نفس المنهج الذي اتبع في تصنيف كتاب المعمرين، فلقد روى "أبو روق" هذه الوصايا عن أبي حاتم، كما روى عنه أخبار المعمرين؛ وإن القارئ للكتابين يلاحظ أن ذاتية أبي روق في رواية الوصايا لم يكن لها أثرها الواضح في روايته أخبار المعمرين، فلا نكاد نجد لأبى روق تصويبا لما يرويه عن أبي حاتم، ولا زيادة على ما يذكره، ولا شرحا أو توضيحا لما يستغلق فهمه من روايته، كما هو حال أبي روق في كتاب المعمرين، بل إن إسناد القول لأبي حاتم في كتاب الوصايا يكثر إلى حد أنه يذهب بأبي روق وبسيرته؛ ولعل هذا راجع إلى أصالة هذه الوصايا وإصابتها، وتواتر رواياتها، ووضوح عباراتها ومدلولها.
وليس عمل أبي حاتم في كتاب الوصايا جديدا أو فريدا كعمله في كتاب المعمرين، فلقد عرفت الوصايا من قديم الزمان لونا من ألوان الأدب العربي، وصنف لها الرواة المؤلفات، وعقدت لها في كتب الأدب الفصول والأبواب، وقد انفردت بروايتها كتب أخرى سابقة، مثل كتاب "تاريخ العرب الأوليّة" للأصمعي، وهو كتاب بنيت مباحثه على وصايا قحطان والملوك من أبناء هود، وكتاب الوصايا لدعبل الخزاعي، وكتاب وصايا الملوك وأبناء الملوك لأبي الطيب ابن إسحق الوشّاء، من علماء القرن الثالث الهجرى.
وإن القارئ لهذه الكتب ولغيرها في وصاياها المختلفة ليجد أنها كلها تصوّر كتابا ذا متن يكاد يكون واحدا، لولا ذلك التغيير الطفيف في بعض العبارات، مما يقتضيه اختلاف الرواة والمؤلفين، وإن الوصية العربية تكاد تكون واحدة، وهى