في عناصرها الأدبية تتكوّن من حكم وأخبار، وما الحكمة العربية إلا تلك الثمرة الفكرية التي يجتنيها المرء من تفاعل نشاطه في بيته الطبيعية والاجتماعية، فيخلص منها إليها في سلوكه العام، وينسجها في العيار الكلامي ذى الدلالة والإيجاز، وكلها عند العرب شيء واحد، فرضته عليهم حياتهم المعاشية؛ وإذا كنا نرى في بعضها اختلافا فإنما هو الاختلاف في الأخيلة، نتيجة للسلطان الفكرى الذي سيطر على العقل العربي بعد ظهور الإسلام، وانتهج به مناهج أخرى في الإدراك والتصوير.
وإن الأخبار الخاصة التي تمتاز بها الوصايا، بعضها من بعض لهى المَعْلم الوحيد الذي يفرق بينها، وهذه الأخبار كلها تدور حول شئون الدنيا، وما كانت الدنيا وشئونها شيئا مذكورا، يشغل بال المرء عند لقاء ربه إلا أن يكون الموصى خليفة، أو حاكما، أو ذا جاه في قومه، فإن لهؤلاء في وصاياهم مناهج خاصة، تفيد التاريخ أكثر مما تفيد الأدب؛ ولقد عنى أبو حاتم بجمع طائفة من هذه الوصايا في العصر الإسلامي، وفي العصر الأموى، واستطاع أن يبرز في مختاراته منها أذواقا خاصة لبعض الخلفاء، كان لها أثر في سلوكهم العام والخاص كما ورد هذا في وصية عبد الملك بن مروان، وفى رواية أبي حاتم لها.
وتعتبر الوصايا من الموضوعات الهامة للدراسات النفسية، وهى تستأهل العناية الكبرى من المختصين، ففيها تتجلّى بوضوح تفاعلات الخلايا العقلية، الظاهر منها والباطن، وتُسْتبان في معالمها عناصر الحالة الفكرية الحادة التي تصيب الإنسان عندما يتهيأ له ملك الموت، وتصبح حياته في نهايتها قاب قوسين أو أدنى؛ وهى نتاج فكرى لتفاعلات متناقضة المؤثرات، تظهر فيها مسالك البشر في طبائعهم الغريزية، وفي سلوكهم المعاشي؛ ولقد حرص أبو حاتم على أن يقدم في مختاراته نماذج حيّة متفرقة من هذه الوصايا تمثل ذواتا مختلفة في عصور متباعدة من التاريخ، وقد جمعها همٌّ واحد، هو الرضا والإيمان.
ولم يخل كتاب المعمرين من ذكر بعض الوصايا التي عرضها أبو حاتم في سيرة