للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان سياسة ثابتة حاسمة تستهدف إفناء الخصوم ومحو آثارهم.

فكانت المذابح العامة تدبر وتنفذ بوحشية بالغة ترتكب خلالها لضائع وجرائم يندى لها جبين الإنسانية فضلًا عن اتباع نبي كان من تعاليمه ما ذكرنا.

ولعل من أبلغ الأمثلة الشاهدة على مبلغ ظلم القوم وحقدهم تلك المذابح التي ارتكبها الصليبيون ضد سكان بيت المقدس إبان استيلاءهم عليها، عندما تخاذل عن الدفاع عنها العبيديون؛ إذ اكتفى واليهم آنذاك -افتخار الدولة- بتأمين نجاته مع حرسه الخاص، وترك المدينة للصليبيين يعيثون فيها فسادًا، بعد أن دافع عنها دفاعًا هزيلًا، ذرًا للرماد في العيون.

وسنعيش أحداث هذه المأساة مع قسيس صليبي هو "القس ريمند" وهو شاهد عيان يروي لنا ما فعله أبناء عمومته، وهو غير متهم بالمبالغة في تصوير المأساة إن لم يحاول إخفاء بعض المخازي. يقول بعد دخوله بيت المقدس: "وشاهدنا أشياء عجيبة؛ إذا قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رميًا بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من قول الأبراج، وظل بعضهم يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا في النقار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل، والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"١.

ويقول المستشرق ستيفن رنسيمان في وصف ذلك:

"على أنه لم ينج من المسلمين بحياتهم إلا هذه الفئة القليلة -وهم افتخار الدولة والي العبيدييين على القدس وحرسه الخاص- إذ أن الصليبيين، وقد زاد في جنونهم ما أحرزوه من نصر كبير بعد شقاء وعناء شديد، انطلقوا في شوارع المدينة، وإلى الدور والمساجد يقتلون كل من يصادفهم من الرجال


١ انظر: وول ديوارنت، قصة الحضارة ١٥/ ٢٥.

<<  <   >  >>