وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام وفي تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانباً ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات وما هناك من العجائب بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه وإطراقه وإقباله على ما أرى دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته وهذا غاية الكمال وزيغ البصر التفاته جانباً وطغيانه مده أمامه إلى حيث ينتهي فنزه في هذه السورة علمه عن الضلال وقصده وعمله عن الغي ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره وبصره عن الزيغ والطغيان وهكذا يكون المدح:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
[فصل]
ولما ذكر رؤيته لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد منها وذكر أن جنة المأوى عندها وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى وهذا من أحسن الاستطراد وهو أسلوب لطيف جداً في القرآن وهو نوعان أحدهما أن يستطرد من الشيء إلا لازمه مثل هذا ومثل قوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ثم استطرد من جوابهم إلى قوله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً