للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علاقة الباطن بالظاهر من جهة المعاملة]

فنقول: هذا باطل بداهة؛ لأن الباطن لابد أن يكون له علاقة بالظاهر، وهذا ليس في الكلام فحسب؛ بل هذا حتى على مستوى البشر، وعلى مستوى النفوس والمعاملات، فإن خالف ظاهر المرء باطنه كان منافقاً، وكذلك الكلمة إن خالف ظاهرها باطنها كانت خطأً.

روى أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس جميعاً إلا أربعة نفر وامرأتين) .

والأربعة هم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس، وعبد الله بن أبي سرح، قال عليه الصلاة والسلام: (اقتلوهم في أي مكان وجدتموهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة) .

فأما عبد الله بن خطل فذهب فتعلق بأستار الكعبة يظن أنه نجا، وكان كافراً يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب سعيد بن حريث وعمار بن ياسر يبحثان عنه، فوجداه معلقاً بأستار الكعبة، فأرادا أن يكون لكل واحد منهما الظفر والأجر بقتله، فضربا بسيفيهما فسبق سيف سعيد فقتله.

وأما مقيس بن ضبابة فقتلوه.

وأما عكرمة بن أبي جهل ففر وركب البحر، فبينما هو في البحر على متن سفينة إذ هاجت ريح عاصف، فقال ربان السفينة: أيها الناس! أخلصوا فإن آلهتكم لا تنفعكم الآن، أخلصوا فإن الإخلاص ينجي، فقال عكرمة في نفسه: (والله لئن كان الإخلاص هو الذي يخلص في البحر فلا يخلص غيره في البر، أما والله لئن أنجاني الله لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسلم عنده وسأجد عفواً) فرجع فأسلم.

بقي عبد الله بن أبي سرح وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما علم ابن أبي سرح أنه مقتول اختبأ عند عثمان، حتى جاءت البيعة العامة التي يبايع المشركون فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، فخرج ابن أبي السرح محتمياً بـ عثمان، فذهب عثمان وقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فأعرض عنه، قال: بايع عبد الله فأعرض عنه، قال: يا رسول الله، ألا تبايع عبد الله بن أبي السرح جاء مسلماً، فقبله، ثم قال لأصحابه: (أليس فيكم رجل رشيد حين أغضيت عنه أن يقوم فيقتله، قالوا: يا رسول الله! ما أومأت لنا، ألا تومئ لنا بعينك -يغمز- قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين) .

هنا أمران: الأمر الأول: لماذا كان عبد الله بن أبي السرح بالذات هو الذي رفض النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه مع أنه قبل إسلام عكرمة بن أبي جهل بدون مشاكل؟

الجواب

لأن عبد الله كان مسلماً فارتد، أما عكرمة بن أبي جهل فكان كافراً فأسلم، فالفرق واضح حيث إن عبد الله بن أبي السرح أسلم وكفر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد عليه أشد الوجد، ولذلك قبله بشق الأنفس، قال: (أليس منكم رجل رشيد حين أغضيت عنه كان يقتله، قالوا: يا رسول الله، ما أومأت لنا بعينك، قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين) هذه هي استقامة الباطن مع الظاهر؛ لأن خائنة الأعين من شأن المنافقين فقط.

وخائنة الأعين لغة مشهورة في دنيا الناس اليوم، فأي رجل صاحب محل تجاري يعرف هذا سلفاً يدخل عليه مشترٍ عميل يقول للغلام: هات شاياً ويغمز له، أي: لا تحضر ولا تأتي، فقط لأجل أن يغبط هذا المشتري معه حتى تتم صفقه.

خائنة الأعين هي لغة كثير من الناس، وهذا ضرب من النفاق العام الذي ابتلي الناس به، وسميت خائنة الأعين لأن اللسان صدق والعين خانت، (اللسان صدق) يقول: سأحضر لك شيئاً أو ما تطلبه سأفعله، هذا كلام اللسان، فمقتضى كلام اللسان أنه سيفي بالوعد، فلما غمزت بعينك صارت هذه خيانة وفضاً لاتفاق اللسان أو لقوله، فلذا سميت خائنة الأعين.

فخائنة الأعين لا تنبغي أن تكون لنبي، وهذا مثال ظاهر لاستقامة الباطن مع الظاهر، فإذا خالف الظاهر الباطن كان هذا نفاقاً، والنفاق عليه عذاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>