ثم إنه لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس، توجه فزاره سنة /٥٨٩ هـ/، ثم رجع فأقام بالمدرسة الفاضلية يُقرئ حتى تُوفي.
وكان إماماً كبيراً، أعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظاً للحديث، بصيراً بالعربية، إماماً في اللغة، رأساً في الأدب، مع الزهد والولاية، والعبادة، والإنقطاع والكشف، شافعي المذهب، مواظباً على السُّنَّة؛
قال ابن خلكان رحمه الله تعالى:«كان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ، تُصحح النسخ من حفظه» .
بلغنا أنه وُلد أعمى. ولقد حكى عنه أصحابه ومن كان يجتمع به عجائباً! وعظموه تعظيماً بالغاً، حتى أنشده الإمام الحافظ أبو شامة الدمشقي - رحمه الله - من نظمه في ذلك:
وَكُلُّهُمْ يُعَظِّمُهُ وَيُثْنِي كَتَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
وذكر بعضهم: أن الشاطبي كان يُصلي الصبح بالفاضلية، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون إليه، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أوَّلاً فليقرأ؛ ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق؛
فاتُّفق في بعض الأيام، أن بعض أصحابه سبق أولاً، فلما استوى الشيخ قاعداً قال: من جاء ثانياً فليقرأ! فشرع الثاني في القراءة، وبقي الأول لا يدري حاله! وأخذ يتفكر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له؟ ففطن أنه أجنب تلك الليلة، ولشدة حرصه على النَّوْبة، نسي ذلك لما انتبه، فبادر إلى الشيخ، فاطَّلع الشيخ على ذلك! فأشار للثاني بالقراءة!
ثم إن ذلك الرجل، بادر إلى حمام جوار المدرسة، فاغتسل به، ثم رجع قبل فراغ الثاني، والشيخ قاعد على حاله، وكان ضريراً، فلما فرغ الثاني قال الشيخ: من جاء أولاً فليقرأ! فقرأ. وهذا من أحسن ما نعلمه، وقع لشيوخ هذه الطائفة.