قال ابن جني: أي يسمع منهم، إلا أن قلبه كان على كل حال معي، أي يميل إليهم بسمعه، ويميل إلي بقلبه.
ومَا قُلتُ للبَدرِ أنتَ اللُّجَينُ ... ولاَ قُلتُ للشَّمسِ أنتِ الذَّهَبْ
قال الشيخ: يقول أني تناهيت في مدحك، فلم أقل: وأنت البدر فضة، ولم أقل أنك أنت الشمس ذهب، لأن الذهب والفضة يستهلكان والشمس والقمر ليسا كذلك.
وقد زَعَمُوا أنَّهُ إن يَعُدْ ... يُعَدْ مَعَهُ المَلِكُ المُعتَصِبْ
قال الشيخ: المعتصب يحتمل وجهين: أحدهما وهو الأجود: أن يكون من الاعتصاب بالتاج، والآخر: أن يكون مفتعلا من العصبية.
ومن التي أولها:
فَديناكَ أهدى النَّاس سَهماً إلى قلبي ... واقتلُهُم للَّدارعينَ بِلا حَربِ
قال الشيخ: قوله) أهدى الناس سهما (يحتمل وجهين: أحدهما ان يكون مأخوذا من قولهم هدى الوحش إذا تقدم، فيكون سهم منصوبا على التمييز، ويكون أفعل مبنيا من فعل له فاعل، ويكون الفعل للقسم. والآخر: أن يكون الفعل للمخاطب من قولهم هديته الطريق. فإذا حمل على ذلك، فسهم ينتصب بفعل مضمر يدل عليه قوله أهدى، لأن فعل التعجب لا يجوز أن ينصب مفعولا، وكذلك أفعل الذي للتفضيل، وعلى ذلك حملوا قول الشاعر:
فَلَم أرَ مِثلَ الحَيّ حَيّاً مُصبِحّاً ... ولا مِثلَنا لما التَقَينَا فَوارسَا
أكَرَّ وأحمى للحَقِيقَةِ مِنهُمُ ... وأضرَبَ مِنَّا في اللقاءِ القَوانِسا
نصب القوانس بفعل مضمر، كأنه قال وأضرب منا في اللقاء فتم الكلام، وأضمر بضرب القوانس، والدارع، الذي عليه الدرع. الذي عليه الدرع.
وَمَنْ خُلِقَتْ عَيناكَ بينَ جُفُونهِ ... أصابَ الحَدُورَ السَّهلَ في المُرتقى الصَّعبِ
قال الشيخ: الحدور كل مكان ينحدر فيه. وهو أسهل من الصعود. ولذلك يصعدني الأمر إذا شق علي، ومنه قوله تعالى) سأرهقه صعودا (.
وقال الهذلي:
وإنَّ سيادةَ الأقوامِ فأعلم ... لها صَعداءُ مَطلَعُها طويلُ
وكلام أبي الطيب مؤيد هذا المعنى، كأنه قال اصاب الحدور السهل في الصعود. والصعود والحدور يستعملان على التأنيث، وذكر الحدور هاهنا لأنه جعله كالنعت للمكان.
ومن التي أولها: دَمعٌ جَرَى فَقضَى في الرَّبعِ ما وَجَبَا
دَارُ المُلِمَ لها طَيفٌ تَهَدَدَني ... لَيلاً فَما صَدَقتْ عَيني وَلا كَذَبا
قال ابن فورجة: الألف واللام في الملم بمعنى التي. يريد دار التي ألم لها ليلا طيف يهددني. ويهدني الطيف على عادة المحبوب في كثرة الدلال والصلف والابتعاد بالهجران والتجنب، فقال ما صدقت عيني لأنها أرتني ما لم تكن حقيقة، وما كذب الطيف في التهدد، فأنه قال لأهجرنك وقد هجر، ولأبعدن عنك، وقد بعد عني، ولأعذبنك وقد فعل.
كأنَّها الشَّمسُ يُعِيي كَفَّ قَابِضِها ... شُعاعُها وَيَراهُ الطَّرفُ مقتَربا
قال ابن جني: هذا مثل قول الشاعر:
فأصبحتُ مَما كانَ بَيني وبينها ... سوى ذِكرها كالقَابضِ الماءَ باليدِ
وقال الشيخ: حسن تقديم ضمير الشعاع قبل ذكره، لأنه اتصل بمخفوض قد أضيف إليه مفعول، كما يقال) خذ ثوب غلامه الأمير (فيحسن تقديم الهاء التي هي عائدة على الأمير لأجل ما ذكرناه، فإذا اتصل الضمير الفاعل قبح تقديمه على المفعول، فلا يحسن أن يقال: خان غلامه الأمير إلا في الضرورة كما قال الشاعر:
جَزَى رَبُّه عَنّي عَدِيَّ بنَ حاتمٍ ... جزاءَ الكِلاَبِ العَاوياتِ وقد فعلْ
وهذا المعنى مأخوذ من قول الأول:
فقلتُ لأصحَابي هي الشَّمسُ ضَوؤُها ... قريبٌ ولَكِنْ في تَناوُلَها بُعدُ
مُبَرقِعي خَيلِهمْ بالبيضِ مُتَّخِذِي ... هامِ الكُماةِ على أرماحِهم عَذَبَا
قال ابن جني: أي جعلوا براقع خيلهم حديدا على وجوهها ليقيها الحديد أن يصل إليها. وجعل شعر هام الكماة، وهم الأبطال، عذبا لرماحه، وقد جمعوا) كميا (على) أكماء (.وقال الشيخ: يريد أنهم يمدون أيديهم بالسيوف للضرب، فتصير أمام الخيل، فكأنها لها براقع، ويمكن أن يريد أنهم قد ستروها بالبراقع، وقوله متخذي هام الكماة يريد ذوائب هام الكماة، وقد يجوز أن يجعل الهامة كالذؤابة، وعذبة الرمح ما تشد في طرفه، والكماة جمع كمي وهو الذي كمى نفسه بالسلاح أي سترها، وقيل هو الذي يستر شجاعته.