قال أبو العلاء: إدعاء أبي الطيب أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والندى وبذل اللهى، لولا الموت غير صحيح، لأن الناس لو كانوا مخلدين لم تنقص فضيلة الجود وغيره من الأشياء المحمودة. ومثال ذلك الشجاع لو علم أنه مخلد لجاز أن يعرض له شيء يخاف من كونه، وإقدامه عليه فضيلة، وكذلك الجود لا يمنع التخليد أن يحمد جوادا إلا أنه قد يجوز أن ينحل بأشياء كثيرة. لا يؤثر أن يكون لغيره من الأحياء. وقال محمد العجلي: الناس على الحقيقة العقلية إنما يرغبون في جمع المال لتقوى به نفوسهم على المكاره التي تلحقهم في الحياة، ولا يحتاجون إليه بعد الموت، أو ربما افتقر الإنسان فأصابه من الشدائد ما يتمنى الموت معه، وربما حمل الفقير نفسه أنفة من الفقر والحاجة على الأمور التي يطلب فيها، وربما مات الإنسان هزلا، فإذا كان الأمر كذلك فأن بذل الإنسان لماله يعدل بذل نفسه في الحرب، ولولا الموت لما حمد الكرم أيضا، وكان الإنسان لو بقي حولا لا يأكل الطعام لما فكر في ذلك إذا أمن الموت.
ولولا أيادي الدَّهرِ في الجمع بَينَنا ... غَفَلنا فَلَمْ نَشعُرْ لَهُ بِذُنُوبِ
قال ابن جني: يقول لولا إحسان الدهر في الجمع بيننا لما شعرنا بذنوبه، تارة يحسن الدهر وتارة يسيء، وما أحسن ما اعتذر للدهر ونفح عنه.
قال ابن فورجة: وقد فسر هذا المعنى بالبيت الذي يليه، إلا أنه عاد مستقبحا لفعل الدهر وذاما له بعد نفح عنه، وبعد ما ذكر أن له عندنا، فقال:
ولَلتَّركُ لِلإحسانِ خَيرٌ لُمحسنٍ ... إذا جَعَلَ الإحسانَ غَيرَ رَبيبِ
وفي الأوراق المنسوبة إلى الصاحب بن عباد، يهزأ بهذا البيت مستظرفا قال: ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ولا تدرك آثاره قوله:
ولَلتَّركُ للإحسانِ خَيرٌ لُمحسنٍ ... إذا جَعَلَ الإحسانَ غيرَ ربيبِ
ولا أشك أن هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من قول حبيب:
فَقلتُ للحادِثَاتِ استَنبِطي نَفَقاً ... فقد أظَلَّكَ إحسَانُ ابن حَسَانِ
فما أدري أمن قوله تعقيده الذي لا يشق غباره تعجب، أم من تشبيهه هذا بيت أبي تمام، وكلا الأمرين عجيب، أما زعمه أنه قد عقد فوجه التعقيد ما لا نعلمه، فأنه لم يقدم لفظة ولا آخر أخرى عن موضعها، ولا أغرب في اللفظ ولا في المعنى، وإنما قال ترك الإحسان خير للمحسن إذا لم يرب إحسانه، ألا تراه حين فككنا النظم، وجعلناه نثرا، أتينا بمثل لفظه سواء من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تقديم، ولا تأخير، فليت شعري أين التعقيد؟ وما قوله ما أشك أن هذا البيت أوقع عندهم من قول حبيب. ولا أعلم ما التجاور بينهما والتشارك، ولعله رأى اشتراكهما في لفظة الإحسان تشابها، والسلامة من هذا القول أسلم لكل لبيب.
إذا استَقبلَتْ نفسُ الكريم مُصَابَهَا ... بِخُبثٍ ثَنَتْ فاستَدبَرته بِطيبِ
قال ابن فورجة: أراد بالخبث الجزع، وبالطيب الصبر، أي إذا جزع الكريم لمصيبته في أولها، راجع أمره فعاد إلى الصبر والتسليم لله. ولفظ البيت مستهجن، إذا أقام الخبث مقام الجزع، ولم يتقدمه ما يوجبه وهو معنى قول أبي تمام:
أتَصبِرُ للبَلوىَ عَزَاءً وحِسبَةً ... فَتُؤجَرَ أم تَسلُو سُلُوَّ البهائم
وكم لكَ جَدّاً لم تَرَ العَينُ وَجهَهُ ... فلم تَجرِ في آثارِهِ بِغُروُبِ
قال الشيخ أبو العلاء: الغروب جمع غرب، وأصل الغرب حدة الشيء، وأصحاب النقل سيتجوزون في العبارة، فيقولون الغروب الدمع، وقيل ألا ترقا الدمعة قال الراجز:
مالَكَ لا تذكر أمَّ عَمرو ... إلاّ لِعينيكَ غُروبٌ تَجري
والمعنى أن الإنسان إنما يحزن لمن يعرف ويشاهد، فأما جدوده الذاهبون فلا يدركه عليهم البكاء، وهو أبي خراش:
ولكنَّها تعفو الكلومُ وإنَّما ... نُوكَّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يمضي
ومن التي أولها: فَديناك مِن رَبعٍ وإن زِدتَنا كَرَبا
ذَكرْتُ به وَصلاً كأن لم أُفز به ... وعَيشاً كأني كنتُ أقطَعُهُ وَثبا
قال ابن فورجة: أراد بالمصراعين جميعا قصر زمان الوصل، فأما المصراع الأول فأنه يقول كأنه لم يكن لقصره، كما قال عبد الصمد بن المعذل:
شَبابٌ كأن لم يكُنْ ... وشَيبٌ كأن لم يَزَلْ