وأما المصراع الثاني فيقول كأن قصر أوقات كل نعمة فيه، قصر وقت الوثب، وكأن كل زيادة من الحبيب وثبة، وكل ساعة من اللقاء وثبة، وكل يوم من الاجتماع وثبة، ولعمري لئن كان القائل:
وَيَومٍ كإبَهامِ القَطاةِ مُزّيَّنٍ ... إليَّ صِباهُ غالِبٍ ليَ باطِلُهْ
أجاد، والقائل:
ظَلِلنا عِندَ دَارِ أبي نُعيمٍ ... بيومٍ سالِفَةِ الذُّبابِ
بالغ، فالوثب في هذا المعنى الذي قصده أبلغ واحسن، وقد وقع في هذا البيت سهو على القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، فأنه ذكره في كتابه الموسوم) بالوساطة (فأدعى أنه أخذه من الهذلي حيث يقول:
عَجِبتُ لسَعي الدَّهرِ بيني وبينَها ... فلمَّا انقضَى ما بيننا سَكَن الدَّهرُ
قال أخذه منه، فجعل أبو الطيب السعي وثبا، وقد ملح في اللفظ، وهذا قول القاضي وهذا عجب منه مع علمه بالشعر وغوصه على المعاني الدقيقة. وكونه في النقد في الذروة العليا، فإذا زل الشيخ أبو الفتح في معنى بيت عذرناه، لكونه عن صناعة الشعر بمعزل، فأما القاضي أبو الحسن فلا عذر له، وإنما هو من جناية العجلة، وحاشا لله أن أدعي الفضل على أحد تلامذتهما، فكيف عليهما! ولعل السهو يتفق علي في كثير مما أظنني أحرزت أطرافه من هذا الكتاب، فضلا عما سواه، إلا أن الدلالة على السهو واجبة بوقف البغي على من به اقتديت، مما أعوذ بالله منه، وبحوله وقوته أعتصم، وهو حسبي ونعم الوكيل. وأقول أن الهذلي لم يرد بالسعي المشي الصريح. فيجعله أبو الطيب وثبا وإنما أراد من قولهم سعيت بفلان إلى الأمير سعيا وسعاية، ولعمري أن السعاية في مصادر هذا الفعل أشهر، إلا أن السعي القياس الذي لا محيص عنه، ويضطرنا إلى ذلك أن معنى البيت لا يتم، وغرض قائله لا يحصل، إلا بما ذكرناه.
يقول لم يزل الدهر يسعى بي إليها، ويسعى بالمكروه بيننا، فلما انقضى ما بيننا بالفراق سكن الدهر من تلك السعاية، ألا ترى أنه أراد السعي الذي هو المشي، لم يكن له معنى، وليكن ما ظنه القاضي أبو الحسن سائغا، فما يصنع بقوله) فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر (أترى الزمان لما وقع الفراق سكن عن المضي. ومل الفلك من الدوران. والزمان إنما هو استمرار دورانه، فلا مجاورة بين بيت الهذلي وبيت أبي الطيب في شيء مما ذكره.
فيا شَوقُ ما أبقَى ويَا لي من النَّوى ... ويا دَمعُ ما أجَرى ويا قلبُ ما أصْبَى
قال أبو العلاء: حذف الياءات التي للإضافة، وهي اللغة الجيدة وقوله) يالي (يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أراد اللام المفتوحة التي للاستغاثة، كما يقال يا لفلان ويا لبكر والآخر: أن يكون أراد اللام المكسورة التي تكون في المستغاث من أجله كأنه قال يا قوم أعجبوا لي من النوى، وقوله) ما أبقى وما أجرى وما أصبى (كله على إرادة الكاف.
لَقَدْ لَعِبَ البَينُ المُشِتُّ بِها وبِي ... وزَوَّدَنِي في السَّيرِ ما زَوَّدَ الضَّبَّا
قال ابن جني: أراد لم يزودني البين شيئا أستعين به على السير ضربه مثلا يردي شدة البين.
قال أبو العلاء: يجب أن يكون خص البين لفرق بينه وبين غيره، وإلا فلا فائدة لذكره وقد زعموا أن الضب لا يشرب الماء، فيحتمل أنه أراد فزودني صبرا عن الماء، كأني أصبر به ضبا: وقيل أن الضب إذا خرج من بيت فبعد لم يهتد للرجوع إليه، وضربوا به المثل في الحيرة، فيجوز أن يكون قصد هذا المعنى.
فحُبُّ الجَبانِ النَّفسَ أورَدَهُ التُّقَى ... وحُبُّ الشَّجاعِ النَّفسَ أورَدَهُ الحَرْبا
قال ابن جني: أي لم يرد الشجاع الحرب إلا ليبلي بلاء، يتشرف ذكره به في حياته، أو يقتل فيذكر بالصبر والأنفة بعد موته وأحسن ما جاء في هذا قول الحصين بن الحمام المري:
تأخّرتُ أستَبقِي الحَياة فلم أجِدْ ... لنَفسِي حَياةً مثلَ أن أتَقَدَّما
ومن التي أولها: ألا ما لِسَيفِ الدَّولَة اليَومَ عاتِبَا
وقدْ كانَ يُدنِي مَجلِسي من سَمائِهِ ... أحادِثُ فيها بَدرَها والكَواكِبا
قال ابن جني: شبه مجلسه، فجعله كالبدر وجعل خصاله سماء، وأفعاله كالكواكب حوله وهو قوله:
أٌقَلِّبُ فِيكَ طَرفي في خِصالٍ ... وإن طَلَعتْ كَواكِبُها خِصَالا
قال أبو العلاء: عني بالكواكب جلساء سيف الدولة وغلمانه وأقاربه.