أهَذا جَزاءُ الصَدقِ إن كنتُ صَادِقاً ... أهَذا جَزاءُ الكِذبِ إن كنتُ كاذِبَا
قال الشيخ أبو العلاء: هذا عتب شديد على سيف الدولة، يقول هذا الفعل الذي فعلت بي من الإبعاد والإخافة جزاء مدحي لك، فأن كنت صادقا فما يجب أن تجازيني على صدقي بقبيح، وأن كنت كاذبا فإكرامي أكثر مما يحب على الصدق لأني تقولت لك من المكارم ما ليس فيك.
ومن التي أولها: مُنىً كُنَّ لي أنَّ البَياضَ خِضابُ
فكيفَ أذُمُّ اليومَ ما كنتُ أشتَهِي ... وأدعُو بما أشكُوُه حِينَ أُجابُ
قال ابن جني: يقول كيف أذم الشيب وقد كنت أشتهيه، وكيف أدعو بما إذا أجبت إليه شكوته، هذا مستحيل أي كيف أدعو بالشيب وأنا اكرهه.
وَعَن ذَملان العِيسِ إن سامَحَتْ بهِ ... وإلاَّ ففي أكوارِهِنَّ عُقابُ
قال أبو العلاء: الكلام يستغني عند قوله:) وعن ذملان العيس (. كأنه قال عني وعن الأوطان وعن ذملان العيس. ثم ابتدأ كلاما فقال أن سامحت العيس بذملانها ركبتها وإلا تسامح به ففي أكوارهن عقاب. أي أنا أقدر من السير والتصرف في الأسفار على ما يقدر عليه العقاب.
وغَيرُ فُؤادِي للغَواني رَمِيَّةٌ ... وغَيرُ بَنانِي للزُّجاجِ رِكابُ
قال الأحسائي: الرواية الصحيحة للزجاج يعني أوعية الخمر. مثل الكأس والجام والقنينة وما أشبه ذلك وهي تجعل على البنان كما قال أبو تمام:
رَاحَ إذا مَا الرَّاحُ كُنَّ مَطِيَّها ... كانَتْ مطايَا الشَّوقِ في الأحشَاءِ
فالحشا والركاب واحد.
وأكثَرُ ما تَلقَى أبا المِسكِ بِذلةً ... إذا لمْ تَصُنْ إلاَّ الحَديدَ ثِيابُ
قال أبو علي: هذا البيت قد ذكرناه في كتاب) التجني على ابن جني (، وقد سها أبو الفتح فيه سهوا بينا قال في تفسيره: يقول إذا تكفرت الأبطال فلبست الثياب فوق الحديد خشية واستظهارا. فذلك الوقت أشد ما تكون تبذلا للضرب والطعن، وهذا أيضا من جناية العجلة، ولو تثبت لم يضرب عنه هذا القدر، وما الحاجة بنا إلى هذا التعسف، بل ما الحاجة بالأبطال أن تلبس الثياب فوق دروعها، وإنما يفعل ذلك من يحتال لحرب من يخشى حربه، إذا كان يكاتمه أو هم بغيلة وهو يخشى ظهور أمرها، فسيظهر لحرب من يدفع أن يدفع، ونما معنى البيت ما أقول: وهو أنه إذا لم يصن البدن إلا الحديد ثياب، فحذف البدن لعلم المخاطب به، يعني في الحال التي لا يصون الإنسان ثيابه عن وخز الرماح وضرب السيوف، بل يحتاج بها إلى الحديد فالحديد على هذا نصب لأنه استثناء مقدم، وظن الشيخ أبو الفتح أنه يقول إذا لم يصن الثياب إلا الحديد، فهلا خصم نفسه وقال قد تصون الثياب بدن لابسها أيضا، في الحال التي تظاهر بها على درعه، ولعمري أن اللفظ مزلة، والإنصاف بنا وبه أولى وترك اللجاج أحسن.
ومن التي أولها:
آخِرُ ما المَلكُ مُعَزٍّى بِهِ ... هذَا الذّي أثَّر في قَلبِهِ
وأنَّ جَدَّ المَرءِ أوطانُهُ ... مَن لَيسَ منها ليسَ مِن صُلبِه
قال أبو الفتح ابن جني: أي لعل الأيام تحسب أن عمتك لما لم تكن قاطنة عندك في وطنك. الذي عادتك وعادة أجدادك أن يكونوا فيه، لأنه بلدكم ومستقركم، أنه لا نسب بينك وبينها فلذلك أقدمت عليها.
وروى الأحسائي: أو لعل الأيام تعتقد أن جد الإنسان وطنه، فمن لا يكون في وطنه فليس من صلب جده، ولا بينه وبينه نسب.
وكانَ مَنْ حَدَّدَ إحسانَهُ ... كأنَّهُ أسرَفَ في سَبِّهِ
قال ابن جني: أي كان يكره أن تحصى تناسيا للمعروف.
وقال أبو العلاء: كلام أبي الفتح على أن المرثاة كانت تكره أن توصف مكارمها وإحسانها، وأحسن من هذا الوجه أن تكون المذكورة غير موصوفة بالكراهة ويكون معنى البيت أن هذا الشخص من حدد إحسانه أو عدده فكأنه ساب له، لن فعله الأجمل كثير لا يدخل تحت الحدود ولا العدد، ويجوز أن يكون المعنى أن المذكور كان يكره أن يحمد لاحتقاره ما يسدي من الأيادي وأصل السب القطع، وإنما يقال سبب الرجل إذا شتمته لأن السب قطع ما بينكما من المودة. ومن ذلك قول الشاعر:
فما كان ذَنبُ بني دَارمٍ ... بأن سُبَّ منهم غُلامٌ فَسَبْ
بأبيضَ ذِي شُطَبٍ بَاتَرٍ ... يَقُدُّ العِظامَ ويَفري العَصَبْ