قال الشيخ أبو العلاء: الفقاس لقب لرجل من الروم بعض ولده المعروف بنقور، وقد صار إليك ملك الروم وهو الذي قتلته أم بسيل وقسطنطين وكانت قد تزوجته وأبناها صغيران، فخشيت أم يخرجها عن المملكة، فدست عليه وهو نائم ليلاً قوماً منهم ابن شمسقيق الذي ذكره أبو الطيب فقتلوه، وكان والد نقفور دمستقا وهو وهو والد قسطنطين الذي أسره سيف الدولة في وقعة الأحيدب، وفي أيامه كانت الوقعة التي قيلت فيها هذه القصيدة، وبعض الناس يخير أن الفقاس كان من آل جفنة الذين دخلوا الروم في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي هذا البيت تسلية للممدوح عن انفلات الدمستق وهو ولد الفقاس يقول أجل منه قد أسر فكتف وأمضى منه قد قتل فهو منصرع.
وَما نَجا مِنْ شِفار البيضِ مُنْفَلِتُ ... نَجا وَمِنْهُنَّ في أحْشائِهِ فَزَعُ
قال الشيخ: ما في أول البيت نافية والمعنى لم ينج، ونجا الثانية في الموضع نعت لمنفلت، يقول: ما نجا من السيوف منفلت في أحشائه منهن فزع ووجه آخر: وهو لأن يكون قد تم الكلام عند قوله) منفلت (فأخبر أنه لم ينفلت منهم أحد ثم استأنف الكلام محتجاً لعدم المنفلت فقال) نجا ومنهن في أحشائه فزع (وفي نجا ضمير على المنفلت وهذا كما يقول الرجل ما نجوت من شر فلان، أي لم يكمل نجاؤك منه ثم يقول نجوت وأنت مرعوب منه فلم يكمل نجاؤك.
كَمْ مِن حُشَاشَةِ بِطْريقٍ تضَمَّنها ... للْباتِرَاتِ أمِينُ ما لَهُ وَرَعُ
قال الشيخ: الحشاشة بقية النفس وأصلها مأخوذ من حش الشيء إذا يبس، ومنه قولهم لما يبس من الكلأ حشيش، فإذا احتش الرجل لدابته حشيشاً، وبقي منه شيء قليل قيل له حشاشة، كما يقال لما فضل من الطعام فضاله، ولما أعذر من الشيء المأخوذ عذاره، فأريد أن الحشاشة بقية نفس قد أخذ معظمها) وأمين (هاهنا يعني القيد الذي يجعل في الأسير أي أنه إذا أودعه الإنسان فهو مأمون على الوديعة، لأن المقيد به لا يقدر على الهرب.
وَجَدْتَّموهم نِياماً في دِمائِكُمُ ... كأنَّ قَتْلاكُمُ إيَّاهُمُ فَجَعُوا
قال الشيخ رحمه الله: يذكر من يدعي علماً بغزوات سيف الدولة بن حمدان أن أصحابه في هذه الغزاة وهي التي كانت تسمى غزاة المصيبة، مروا في هزيمتهم بمقتلة من الروم، فظنوا أن أولئك القتلى لا تجاوزهم من العدو، فنزلوا في ذلك الموضع ليستريحوا، فجاءت خيل الروم ووجدتهم على تلك الحال، فنالوا منهم المراد من قتل وأسر، ومعنى البيت أنكم وجدتم هؤلاء القوم نياماً بين قتلاكم، كأنهم الذين فجعوا بهم وذلك من شأن الحزين ومن قتل له قتيل أن يكب عليه، ويحمله الجزع على أن يتلطخ بدمه كما أن المخزون يتمرغ على القبر ويقلبه لشدة الجزع.
وروى الأحسائي عن علي بن عيسى الربعي أن أبا الطيب قال غبرت في تلك الليلة فرأيت جماعة من المسلمين قد ناموا بين قتلى الروم، من شدة الحال التي أصابتهم، ورأيت قوماً منهم يحركون القتلى فمن وجدوا فيه رمقاً أماتوه فلذلك قال هذا.
إن السِّلاح جَميعُ النَّاسِ تَحْمِلُهُ ... ولَيْسَ كُلُّ ذّواتِ المِخْلَبِ السَّبُعُ
قال الشيخ: قد حكى سيبويه عن العرب ليس الطيب إلا المسك برفع الطيب والمسك وهذا يشبع قوله) وليس كل ذوات المخلب السبع (إذا أخذنا يقول من ذهب إلى أن ليس بمعنى ما في قولهم: ليس الطيب إلا المسك وللنحويين كلام في الضمير بعد ليس إذا كانت في مثل هذا الموضع ومثل بيت أبي الطيب قول هشام أخي ذي الرمة:
هي الشِّفاءُ لِداَئي إنْ ظَفِرْتُ بها ... وليسَ منها شفاءُ الدواء مَبْذول
وإن شئت أضمرت في ليس وهو رأي أكثر الناس والإضمار في كان وأخواتها كثير موجود قال حميد الأرقط:
فأصْبَحُوا والنَّوَى عالي مُعَرَّسِهِمْ ... وَلَيْسَ كَلَّ النَّوَى تُلْقِي المَساكِين
ومن التي أولها: حُشَاشَةَ نَفْسٍ وَدَّعَتْ يَومَ وَدَّعُوا
أشارُوا بتَسْلِيمٍ فَجُدْنا بأنْفُسٍ ... تَسِيلُ من الآماقِ والسَّمُ أدْمُعُ
قال ابن جني: السم يريد الاسم يقال اسم وسم وسيم وسمي مثل هذه حكاها أبو علي عن أحمد عن ابن الأعرابي وأنشد أبو علي عن أبي زيد:
فَدعْ عَنْكَ ذِكْرَ اللَّهْوِ واقصد بِمدْحَةٍ ... لَخيرِ يمانٍ كُلَها حيث ما انتَمى