لأوضَحِها وجهاً وأكرمها أباً ... وأسمحها كَفّاً وأعْلَنِها سُما
وقد حكي اسم بضم الهمزة وليست قوية في سماع ولا قياس، والمعنى أي كأن أرواحنا جرت من أعيننا في صورة الدموع، فسميت دموعاً وهي في الحقيقة أنفس.
وقال الشيخ: هذا المعنى يتردد في شعره كثيراً، وتدعى الشعراء أن الدمع هو نفس الإنسان وقد استعمل ذلك أبو الطيب في قوله:
أرْوَاحُنا انُهَمَلَتْ وَعِشْنا بعدها ... مِنْ بعْدِ ما قَطَرتْ على الأقدامِ
وَإنَّ الذَّي حابَى جَديلَةَ طَيٍ ... به اللهُ يُعْطِي مَنْ يَشاءُ ويَمْنَعُ
قال ابن فورجه: قال ابن جني: أي حاباها به من الحباء وهي العطية كأنه يريد وإن الذي حبا جديلة طي به الله. أي أعطاها إياه فبنى الفعل للاثنين كما تفعل بقولك: سافر وعافاك الله. ثم فسر باقي البيت فقال أي هذا الممدوح يعطي من يشاء ويمنع، وهذا الذي ذكره أبو الفتح تمحل وتوصل يتأتيان بتكلف. والذي أراده أبو الطيب أن) حابي (ضميره للممدوح وهو) الذي (وهو الفعل الذي لا يصح إلا بين أثنين، وجديلة طي كرام أسخياء، ومن حاباهم عالي المنزلة في السخاء، وخص جديلة طي لأن الممدوح منهم، يقول هو أسخاهم والله تعالى به يعطى من يشاء ويمنع لأنه أمير قد فوض إليه أمر الخلق فنفعهم وضرهم من جهته.
فَتىً ألْفُ جُزْءٍ رأيُهُ في زَمانِهِ ... أقَلُّ جُزَيءٍ بَعْضُهُ الرأيُ أجْمَعُ
قال ابن جني: ترتيب الكلام: فتى رأيه في زمانه ألف جزء، وأقل جزء من هذه الأجزاء بعضه أي بعض الأقل الرأي الذي في أيدي الناس كله، فألف جزء مرفوع لأنه خبرُ عن البعض وأجمع توكيد للرأي. والهاء من بعضه عائد على أقل من الجملة التي هي خبر عنه.
خَبَتُ نارُ حَرْبٍ لم تَهِجْها بَنانُهُ ... وأسْمَرُ عُرْيانُ من القِشْرِ أصْلَعُ
قال الشيخ: مصدر خبت الخبو وقالوا خبوت النار وقال الشاعر:
وتُوقَدُ باليَفاعِ الليلَ نَاري ... تَشبُّ إذا يُحسُّ لها جنوبُ
كأنه أبدل من الواو الآخرة تاء لقولهم وتكأة، ولا يمتنع أن يكون خبت اللهيب أصلاً في كلامهم، ويكون مأخوذاً من الخبت، وهو المطمئن من الأرض مع سهولة ومنه قالوا: أخبت الرجل، إذا تأله وتخشع، كأنه ذل حتى لصق بالخبت من الأرض، وقد قالوا خبت بمعنى أخبت، وقوله) خبت نار حرب (الأحسن أن يكون على معنى الدعاء كما يقال: لا كانت حرب لم يهجها فلان، والأسمر العريان من القشر القلم، وجعله أصلح لأنه لا نبات عليه.
ذُبابُ حُسامٍ مِنْهُ أنجَى ضرِيَبَةً ... وأعْصىَ لَوْلاهُ وَذَا مِنْهُ أطْوَعُ
قال ابن جني: يفضل القلم على السيف لأنه قد ينجى من حد السيف ولا ينجى من ضربة هذا القلم، والسيف يعصي صاحبه، القلم يطيعه ومثل قوله) وأعصى لمولاه (قول طرفة:
أخِي ثِقَةٍ لا يَنْثَني عن ضرَيبةٍ ... إذا قِيلَ مَهْلاً قالَ حاجِزُه قَدي
وليسَ كبَحْر يشْتَقُّ قَعْرَهُ ... إلى حيثُ يفْنَى الَماءَ حُوتُ وَضُفْدَعُ
قال الشيخ: يقول ليس هذا الممدوح كبحر الماء يمكن استقصاؤه، ويشتقه إلى منتهاه الحوت والضفدع، في الضفدع لغتان ضفدع وهي اللغة المعروفة وقد حكى ضفدع بفتح الدال. وحوت مرفوع يشتق.
وقال ابن فورجه: أخبرني بعض من كان لقي أبا الطيب أنه سمعه يقول الذي قلت) إلى حيث يفنى الماء (وأردت به حيث يكون في فناء الماء، كأن أصله فنيت الرجل أفنيه أي كنت في فنائه فيفنى فاعله حوت وضفدع، فإن كانت هذه اللفظة مسموعة فتوشك أن تكون الحكاية صحيحة.
ومن التي أولها: مُلِثَّ القَطْرِ أعْطِشْها رُبُوعَا قوله:
تُرَفِّعُ تَوْبَها الأرْدَافُ عَنها ... فيَبْقى مِنْ وشاحَيْها شَسُوعا
قال ابن جني: الشسوع البعد ومثل هذا المعنى صفة رجل لامرأة فقال: لا يصيب ثوبها منها إلا مشاشي منكبيها، ورانفتي إليتها، وحلمتي ثدييها.
وقال الشيخ: (فيبقى من وشاحيها شسوعاً (يعني الثوب وهذا المعنى مجانس لقول الآخر:
أبَتِ الرَّوادِفُ والثُّدِيُّ لِقمْصها ... مَسَّ البُطون وأنْ تَمسَّ ظُهورَا
إذَا مِاسَتْ رأيْتَ لها ارْتِجاجاً ... لَهُ لَوْلا سَوَاعِدُها نَزُوعا