وقال ابن فورجة: يعني أنه وهب ما ورث جدوده من المال ومن المعالي والشرف أما المال فللعفاة، وأما المجد فلسائر أسرته، واستجدت مجداً وشرفاً بمساعيه ولم يرد ما ورثهم من المال فقط الدليل على ذلك قوله) وما رأى أفعالهم لابن بلا أفعاله (فدل بقوله الأفعال أنه يريد المعالي والشرف وكأنه أراد قول القائل:
وإذا افتخرْتَ بأعْظُمٍ مقْبُوَرةٍ ... فالنَّاسُ بينَ مُكَذّبٍ وَمُصَدّقِ
فأقمْ لنفسِكَ في انتِسابكَ شَاهِداً ... بحَديثِ مَجْدٍ للقَدِيمِ مُحققِ
وقد أجاد الشريف أبو الحسن الموسوي في قوله:
فَخَرْتُ بَنفسي لا بَقوْمي مُوَقَّراً ... على ناقصِي قَوْمي مآثِرَ أُسْرَتي
فقد زاد المعنى وضوحاً.
قال أبو الفتح ابن جني ورأى أن أفعال آبائه ليست نافعة ولا رافعة منه حتى يفعل هو مثلها، ولو كان أراد ما قال أبو الفتح لقال: وما رأى أفعالهم لابن بلا أفعاله بل الهاء في) أفعاله (لسيف الدولة، يقول ما رأى أفعال الجدود نافعة لابن ليست له مثل أفعال سيف الدولة، فإن قال قائل فقد قال في البيت الذي يليه:
حتى إذَا فَنِيَ التُّراثُ سِوىَ العُلا ... قَصَدَ العُداةَ مِنَ القَنا بِطَوالهِ
وقد زعمت أنه عنى أنه وهب ما ورث من المعالي والمجد، فالجواب أن هذا البيت مؤكد لما قلناه، ويعني أنه وهب ما ورث فأما المال ففني وأما الشرف فلا يفنى وإن وهبه، لأن الهبة في مجد الآباء مجازلا حقيقة، وإنما يتأتى بتوفيره إياه على سائر أسرته واستحداثه مجداً آخر كما صّرح به الشريف الموسوي.
كُلُ يُريدُ رجَالهُ لحياتَهِ ... يا مَنْ يُريُد حياتَهُ لرجالهِ
قال الشيخ: هذا البيت مبني على حكاية تذكر عن سيف الدولة مع الإخشيد، وذلك أنه أراد أن يغلب على هذه البلاد، وجاء في جيش عظيم، وطرد سيف الدولة، ثم انصرف، فيقال إن سيف الدولة وجه إليه بكلام مراده فيه ابرز إلي ولا تقتل الناس بيني وبينك، فأينا غلب ملك، فوجه إليه الإخشيد: اعجب منك إنها جمعت هذا الجيش العظيم لاقي به نفسي، أفتريد أن أبارزك. وهذا جهل.
ومن التي أولها: أيَنْفَعُ في الخَيْمَةِ العُذّلُ قوله:
فَلِمْ لا تَلُومُ الذي لامَها ... ومَا فَصُّ خاتمِه يَذُبلُ
قال ابن جني: سألته عن معنى هذا البيت فقال) ما (في معنى ليس، وقال أردت إن جاز أن تلام هذه الخيمة على عجزها عن علوها على سيف الدولة، مع أن ذلك غير ممكن، بل هو متعذر، لأنه أعلى من أن تشتمل عليه خيمة، فلم لا تلوم هذه الخيمة من لامها على أن فص خاتمه ليس يذبل، فكما أن لوم الإنسان على أن لا يكون فص خاتمه يذبل مستحيل، لأن هذا ليس في الطاقة، فكذلك لوم هذه الخيمة من لامها ليس فص خاتمه يذبل، وهو مبالغة عظيمة لأنه جعل الذي يجترئ على لوم هذه الخيمة، يجب أن يكون فص خاتمه يذبل، وهو الجبل المستعظم، وكيف تلومها وهو حقير إنما شخصه كشخص غيره من الناس.
يُفاجئ جَيْشاً بها حَيْنُهُ ... وَيُنذر جَيشاً بها القَسْطَلُ
قال ابن جني: أي تارة يسري ليلاً فيباكرها فيهلكه لأنه لم يشعر بها وتارة نهاراً نحوه فينشر قسطلاً فينذره فيهرب، ويجوز أن يكون أراد تارة تحزن فلا تنشر غباراً وتارة تسهل فتنشره.
جَعَلتُك بالقَلْب لي عُدَّةً ... لأنكَ باليَدِ لا تُجعلُ
قال الشيخ رحمه الله: يقول جعلتك في قلب الجيش لي عدة لأنك لا تجعل في شمال الجيش ولا يمناه؛ إذ كان عميد الجيش إنما يكون في القلب، فهذا وجه ووجه آخر وهو أجود، وهو أن يريد الشاعر قلب نفسه أي جعلتك عدتي بقلبي، لأنك أجل من أن تجعل باليد لأنها إنما تتصرف فيما صغر من الأشياء، والقلب يتسع في الضمير حتى أنه يضمر ما لا يدرك.
فإنْ طِبُعَتْ قبلَكَ المرُهَفاتُ ... فإنك من قَبلها المِقْصَلُ
قال ابن فورجة: قال الشيخ أبو الفتح بن جني: معناه أنك لإفراط قطعك وظهوره على قطع جميع السيوف، كأنك أنت أول ما قطع، إذ لم ير قبلك مثلك، وهذا كما قال، ويحتمل وجهاً أجود مما ذهب إليه، وهو يريد غناؤك قبل غنائه ولولا قطعك لما قطع كما قال الآخر:
وما السَيّفُ إلاّ بَزُّ غَادٍ لزِينةٍ ... إذا لم يكن أمضَى من السيف حامِلُه
وكما قال: