وذلك أن) وهسوذان (هرب من عضد الدولة في البراري. والنعامة لا تأوي الجبال، فضرب شرود النعام مثل الهرب في القفار، والمعنى في البيت الذي يليه أن النعام لا تصعد الجبال، وإنما تصعدها الوعول، وعنى بالنعام خيله على التشبيه لها بها في سرعة العدو وطول الساق، يعني أن خيله تتسنم الجبال في طلب الروم، كما قال في البيت الآخر:
تَظُنُّ فِراخُ الفُتخِ أنَّكَ زُرْتها ... بأمَّاتها وَهْي العِتاقُ الصَّلادِمُ
ومن التي أولها:
شَديدُ البُعْدِ مِن شُرْبِ الشَّمولِ ... تُرُنْجُ الهِنْدِ أو طَلْعُ النَّخيلِ
قال ابن جني: رفع) شديد البعد (لأنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنت شديد البعد ورفع) ترنج الهند (بالابتداء كأنه قال: بين يديك أو في مجلسك ترنج الهند، إلا أنه حذف من الأول المبتدأ، ومن الثاني الخبر، لأنه مشاهد، ودلت الحال على ما أضمره كما تقول إذا رأيت رجلاً قد سدد سهماً ثم سمعت صوتاً:) القرطاس. والله (. أي أصاب القرطاس. وكما تقول للقادم من سفرة:) خير مقدم (فتنصبه لأنك تريد: قدمت خير مقدم ويجوز أن يرفع فتقول: خير مقدم. أي مقدمك خير مقدم، فيجوز إضمار هذا كله، لأن في الحال دليلاً عليه.
وقال الشيخ رحمه الله رداً على من عاب قوله) ترنج الهند (: قد حكى ترنج غير واحد من أهل العلم، وليس الشعر مبنياً على أن تذكر فيه الكلمة الفصحى دون غيرها، مما هو قريب منها، ألا ترى أنه يوجد في أشعار العرب الكلمة المنقولة من لسان غيرهم كقول ابن أحمر.
حنَّت قَلُوصي إلى بابوسِها طَرباً ... فما حَنينُكِ أم أَنتِ والذّكر
والبابوس ليس من كلام العرب وإنما هو منقول من لسان الروم. والأترنج قليل التردد في الشعر الفصيح على أن علقمة بن عبدة قال:
ردَّ القَيانُ جِمالَ الحَيَّ فاحتَملُوا ... فكلها بالتَزيدّياتِ مَعكُومُ
يَحْمِلْنَ أُتْرُجَّةٍ نَضْحُ العَبيرِ بها ... كأنّ تطيابها في الأنفِ مَشْمُومُ
ويجوز أترنج، وترنج وأترنج قال الراجز:
يا رُبَّ خَوْدٍ من بناتِ الزَّنجِ ... تحمل تَّنوراً شديدَ الوَهجِ
نكهَتُها كَعبقِ الأُترنجِ واشتقاق الأترنج لم يذكر في الكتب المتقدمة، ويجوز أن يكون معرباً، ويجوز أن يكون عربياً في الأصل إلا أنه أميت ثلاثية، وقد قالوا) ترج (وهو اسم موضع كثير الأسد، ووزن الأترج) أفعل (يا هذا، ولو سمينا به رجلاً لم نصرفه وقد وجدناهم حذفوا الهمزة من أشياء ليس حذفها في أترج وأترنج بأبعد منها، فمن ذلك قولهم) أرز (في اللغة الفصيحة) ورز (في اللغة الأخرى. ويقال جئناهم في) أفرة الغيظ (وحكى بعضهم) فرة الغيظ (ومن التي أولها:
لَيالي بعدَ الظَّاعِنينَ شُكُولُ ... طِوالُ وَلْيلُ العاشِقينَ طَوِيلُ
قال الشيخ رحمه الله: قوله شكول أي ضروب مختلفة.
وقال ابن فورجة: شكول أي متشابهة، فيجوز أن يعني أن ليالي الناس تقصر وتطول بحسب الزمان، فإن كان صيفاً قصرت وإن كان شتاء طالت، غير أن ليالي طوال أبداً لبعد الحبيب عني، وامتناع نومي كقول القائل: ما أطولَ الليلَ على مَنْ يَنمْ ويجوز أن يكون الغرض في مشاكله بعضها بعضا أنها ليست مما ينام في بعضها، أو يجد فيها روحا، إذ كانت المدة الطويلة مما يسلي كقول القائل:
إذا ما شئتَ أنْ تسْلا حبيباً ... فأكثْر دونَهُ عَدَدَ اللَيالي
ويكون غرض أبي الطيب كغرض القائل:
فما أحَدثَ النَّايُ المُفَرَّقُ بيننا ... سُلُواً ولا طُولُ اجتماعٍ تَقاليا
يقول فليالي وإن كثرت فما يتغير حالي فيها، ولا ينقص غرامي ووجدي بالحبيب مع تكاثرها بل قد دامت في الطول على حالة واحدة.
إذا كانَ شَمُّ الرَّوْحِ أدنى إليكمُ ... فَلا بِرَحَتْني رَوْضَةُ وَقَبُولُ
قال ابن جني: معناه إذا كنتم تؤثرون شم الروح في الدنيا وملاقاة نسيمها فلا زلت روضة وقبولاً انجذاباً إلى هواكم، ومصيركم إلى ما تؤثرونه، ويكون سبب الدنو منكم، ثم جعل الاسم نكرة والخبر معرفة لأجل القافية.