للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما تراءى الجمعان من المسلمين والنصارى، رأى يوسف وأصحابه أمرًا عظيمًا هالهم من كثرة عددٍ، وجودة سلاح وخيل، وظهور قوة؛ فقال للمعتمد: ما كنت أظن هذا الخنزير -لعنه الله- يبلغ هذا الحد!.

وجمع يوسف أصحابه وندب لهم من يعظهم ويذكرهم؛ فظهر منهم من صدق النية والحرص على الجهاد واستسهال الشهادة ما سر به يوسف والمسلمون.

وكان ترائيهم يوم الخميس، وهو الثاني عشر من شهر رمضان؛ فاختلفت الرسل بينهم في تقرير يوم الزحف ليستعد الفريقان؛ فكان من قول الأدفنش -لعنه الله-: الجمعة لكم، والسبت لليهود وهم وزراؤنا وكتابنا وأكثر خدم العسكر منهم، فلا غنى بنا عنهم، والأحد لنا؛ فإذا كان يوم الاثنين كان ما نريده من الزحف. وقصد -لعنه الله- مخادعة المسلمين واغتيالهم، فلم يتم له ما قصد ...

فلما كان يوم الجمعة تأهب المسلمون لصلاة الجمعة ولا أمارة عندهم للقتال، وبنى يوسف بن تاشفين الأمر على أن الملوك لا تغدر؛ فخرج هو وأصحابه في ثياب الزينة للصلاة؛ فأما المعتمد فإنه أخذ بالحزم، فركب هو وأصحابه شاكِّي السلاح١، وقال لأمير المسلمين: صل في أصحابك؛ فهذا يوم ما تطيب نفسي فيه، وها أنا من ورائكم؛ وما أظن هذا الخنزير إلا قد أضمر الفتك بالمسلمين. فأخذ يوسف وأصحابه في الصلاة، فلما عقدوا الركعة الأولى ثارت في وجوههم الخيل من جهة النصارى، وحمل الأدفنش -لعنه الله- في أصحابه؛ يظن أنه قد انتهز الفرصة؛ وإذا المعتمد وأصحابه من وراء الناس، فأغنى ذلك اليوم غَناء٢ لم يشهد لأحد من قبله؛ وأخذ المرابطون سلاحهم فاستووا على متون الخيل، واختلط الفريقان؛ فأظهر يوسف بن تاشفين وأصحابه من الصبر وحسن البلاء والثبات ما لم يكن يحسبه المعتمد؛ وهزم الله العدو، واتبعهم المسلمون يقتلونهم في كل وجه، ونجا الأدفنش -لعنه الله- في تسعة من أصحابه؛ فكان هذا أحد الفتوح المشهورة بالأندلس، أعز الله فيه دينه وأعلى كلمته، وقطع طمع الأدفنش -لعنه الله- عن الجزيرة، بعد أن كان يقدر أنها في ملكه، وأن رءوسها خدم له؛ وذلك كله بحسن نية أمير المسلمين.

وتسمى هذه الوقعة عندهم وقعة الزلاقة. وكان لقاء المسلمين عدوهم -كما ذكرنا- في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان الكائن في سنة ٤٨٠. ورجع يوسف بن تاشفين وأصحابه عن ذلك المشهد منصورين, مفتوحًا لهم وبهم. فسُر بهم


١- "شاكي السلاح": يقال: شك فلان في السلاح: لبِسه تامًّا.
٢- الغناء: النفع والكفاية.

<<  <   >  >>