للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أهل الأندلس، وأظهروا التيمن بأمير المسلمين والتبرك به، وكثر الدعاء له في المساجد وعلى المنابر، وانتشر له من الثناء بجزيرة الأندلس ما زاده طمعًا فيها, وذلك أن الأندلس كانت قبله بصدد التَّلاف، من استيلاء النصارى عليها وأخذهم الإتاوة من ملوكها قاطبة. فلما قهر الله العدو وهزمه على يد أمير المسلمين، أظهر الناس إعظامه، ونشأ له الود في الصدور.

ثم إنه أحب أن يجول في الأندلس على طريق التفرج والتنزه، وهو يريد غير ذلك؛ فجال فيها ونال من ذلك ما أحب، وفي خلال ذلك كله يظهر إعظام المعتمد وإجلاله، ويقول مصرحًا: إنما نحن في ضيافة هذا الرجل وتحت أمره، وواقفون عند ما يحده.

بين المعتصم بن صمادح والمعتمد بن عباد

وكان ممن اختص بأمير المسلمين من ملوك الجزيرة وحظي عنده واشتد تقريب أمير المسلمين له: أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح المعتصم صاحب المرية. وكان المعتصم هذا قديم الحسد للمعتمد، كثير النفاسة١ عليه؛ لم يكن في ملوك الجزيرة من يناويه٢ غيره، وربما كانت بينهما في بعض الأوقات مراسلات قبيحة. وكان المعتصم يعيبه في مجالسه وينال منه, ويمنع المعتمد من فعل مثل ذلك مروءته ونزاهة نفسه وطهارة سريرته وشدة ملوكيته. وقد كان المعتمد قبل عبور أمير المسلمين بيسير، توجه إلى شرقي الأندلس يتطوف على مملكته ويطالع أحوال عماله ورعيته؛ فلما دانى أول بلاد المعتصم، خرج إليه في وجوه أصحابه، وتلقاه لقاء نبيلًا، وعزم عليه ليدخلن بلاده؛ فأبى المعتمد ذلك. ثم اتفقا بعد طول مُرَاوَدة٣ على أن يجتمعا في أول حدود بلاد المعتصم وآخر حدود بلاد المعتمد، فكان ذلك واصطلحا في الظاهر. واحتفل المعتصم في إكرامه, وأظهر من الآلات السلطانية والذخائر الملوكية المعدة لمجالس الأنس ما ظنه مُكْمِدًا٤ للمعتمد مثيرًا لغمه. وقد أعاذ الله المعتمد من ذلك، وصان خلقه الكريم عنه، وعصمه بفضله منه؛ ثم افترقا بعد أن أقام المعتمد


١- النفاسة: يقال: نافس فلانًا في الشيء: سابقه وباراه فيه، ومنه: نفس الشيء وبه على فلان: حسده ولم يره أهلًا له.
٢- يناويه: يناوئه: يباريه, أو يعاديه، أو يفاخره.
٣- المراودة: يقال: راوده عن الأمر، وعليه: داراه، وراوده على الأمر: طلب منه فعله. وراوده مراودة ورِوادًا: خادعه وراوغه.
٤- مكمدًا: يقال: كمد الرجل: كتم حزنه، أو حزن حزنًا شديدًا، وأكمد الحزن فلانًا: غَمَّه.

<<  <   >  >>